بيروت – كمال ذبيان
منذ انسحاب القوات السورية من لبنان، قبل تسع سنوات، والجيش اللبناني يتنكّب مسؤولية الحفاظ على الأمن والإستقرار، وتثبيت السلم الأهلي، وقد مرّ في إمتحانات عدة أكّد فيها أنه قادر على منع إندلاع حرب أهلية، متى ما توفّرت له القرارات السياسية التي تتّخذها الحكومة، إذا كانت حكومة وحدة وطنية أو مصلحة وطنية، كما هي الحكومة الحالية برئاسة تمام سلام.
العماد قهوجي |
ويصادف أن الجيش ينفّذ خطة أمنية له في طرابلس والبقاع وتحديداً الشمالي منه، مع الذكرى الـ40 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975، وتوقفت في 13 تشرين الأول عام 1990، مع إنهاء تمرّد قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون في قصر بعبدا وبعض المناطق التي كانت خاضعة لسلطته، إذ كان الخلاف على دور الجيش مع إشعال الفتنة عبر حادثة «بوسطة عين الرمانة» التي قُتل فيها فلسطينيون، واتُّهم حزب الكتائب بتدبيرها، وما إذا كان يجب أن يتدخل لوقف المعارك العسكرية التي اندلعت بين ميليشيات الكتائب من جهة ومسلحي الفصائل الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية من جهة ثانية، ونشأت محاور بين عين الرمانة والشياح، والدكوانة-تل الزعتر (المخيم الفلسطيني)، وصدرت عن الأحزاب المسيحية مواقف سياسية حول ضرورة أن يصدر قرار سياسي للجيش لفرض الأمن ومحاصرة المسلحين، إلا أن ذلك لم يحصل وجوبه برفض إسلامي ووطني، لأن طرفاً في السلطة هو حزب الكتائب، كان يعتبر الجيش حامياً له وللدولة التي «للمارونية السياسية» الحصة الأكبر في نظامها السياسي، في حين كان الطرف المسلم الذي كان يمثّله رئيس الحكومة آنذاك رشيد الصلح، ينظر الى الجيش على أنه منحاز الى الكتائب، ومعادٍ للمقاومة الفلسطينية التي اصطدم معها في أكثر من موقع ومنطقة، مما أجّج المعارك العسكرية، وبقي الجيش في الثكنات محايداً، وعندما كان يُستخدم، إنما للفصل بين المقاتلين أو لمشاركتهم في لجان أمنية أو ارتباط وما شابه، وهذا ما وسّع من إطار الحرب الأهلية التي تداخلت فيها عوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية، وهي تطوّرت الى حد أنها ارتبطت بأزمات أخرى، وبات حلها متعثراً داخلياً، وينتظر القرار الخارجي، حيث عاش لبنان إنعكاسات الحرب الباردة عليه، بين أميركا والإتحاد السوفياتي، و دخلته جيوش سورية وعربية، واجتاحته إسرائيل مرتين، وحضرت «القوات الأطلسية» الى أرضه، بعد أن انقسم الجيش الى ألوية مناطقية وطائفية وسياسية.
هذا الخلاف على الجيش هو الذي عطّل قدراته على الحسم لجهة الإستقرار، وهو يتأثر بالقرار السياسي، كما بالوفاق الداخلي، وأن الفوضى الأمنية تعمّ عندما تفقد المؤسسة العسكرية دورها، وهذا ما تنبّه له المجتمع الدولي الذي لا يريد للبنان الوقوع من جديد في أتون حرب أهلية، إذ هناك إجماع دولي على ضرورة الإستقرار في «بلاد الأرز»، ويتم تحييدها عن الصراعات في المنطقة لاسيما في سوريا، وقد أمّن القرار الدولي، عدم إنزلاق اللبنانيين نحو الفتنة، وأن أسباباً خارجية ساعدت بذلك، لجهة رفض تمويل أي حرب، ودعم الجيش لمواجهة الإرهاب الذي بدأ يضرب في لبنان منذ حوالي العقدين، وقد سبق دولاً كثيرة، في تصديه للمجموعات الإرهابية.
فمع الذكرى الأربعين لاندلاع الحرب الأهلية، فإن اللبنانيين، الذين يعانون منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ما يشبه الحرب الأهلية الباردة، فإن الأطراف المتنازعة سياسياً، لم تجنح نحو توسيع الإقتتال الداخلي، وأن طرفين أساسيين هما «حزب الله» و«تيار المستقبل»، مازالا محافظين على حدود معينة في صراعهما الذي اتّخذ في مرحلة ما بعد حرب تموز 2006، أشكالاً متعددة من الإعتصامات الى الإشتباكات المحدودة وعمليات عسكرية وأمنية خاطفة كما حصل في 7 أيار 2008، إلا أنها لم تتّخذ طابعاً شاملاً، وقد أُطفئت الكثير من المحاور، وساهم بذلك، النائب وليد جنبلاط الذي انتقل من المغامرة العسكرية بوجه «حزب الله» باعترافه هو عندما وصف سلاحه بالغادر الى المطالبة بنزعه، منسقاً بذلك مع مطلب خارجي وتحديداً أميركي، الى المطالب والداعي للمساكنة مع سلاح الحزب الذي ليس بمقدور طرف داخلي نزعه وسيتسبب بحرب أهلية، كما أن إسرائيل انهزمت عندما شنّت حرباً في صيف 2006، لتدمير ترسانته الصاروخية.
فالفشل الداخلي بنزع سلاح «حزب الله» الى هزيمة العدو الإسرائيلي بذلك، فإن وقوع الأزمة السورية أعاد تحريك الوضع الداخلي، مع الإنقسام اللبناني حولها بين فريق مؤيّد للنظام وآخر معارض له، ومن ثمّ إنخراط أطراف لبنانية في المعارك الدائرة في سوريا، واتخاذها طابعاً مذهبياً، مما هزّ الإستقرار الأمني، واندلعت المعارك من جديد على محوري باب التبانة وجبل محسن، بعد أن توقفت في العام 2009، بعد المصالحة السورية-السعودية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري الذي زار سوريا والتقى الرئيس بشار الأسد، ثمّ ذهب بعده النائب وليد جنبلاط، وهذا ما فرض الهدوء الأمني، الى أن أُخرج الحريري من رئاسة الحكومة بأسلوب قسري وتشكيل نجيب ميقاتي الحكومة التي واجهها «تيار المستقبل» في الشارع، وبدأ عد الجولات العسكرية في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، ولم تتوقف إلا بعد بلوغها الرقم 20، وسقوط 220 قتيلاً وحوالي 1500 جريح وانهيار إقتصادي ودمار وخراب في المنازل والممتلكات، إضافة الى هزّ النسيج الإجتماعي وظهور خطاب مذهبي بين السّنّة والعلويين.
لم يكن الجيش طرفاً في النزاعات السياسية الداخلية، وإن كان بعض الأطراف لاسيما «الإسلاميون المتشددون»، وبعض نواب «تيار المستقبل»، كانوا يحاولون إلصاق صفة الطرف الى الجيش واتّهامه بأنه يقف مع «حزب الله»، وأنه يظلم «أهل السّنّة»، إلا أن هذه الإتهامات المغرضة، لم تكن تلقى التجاوب لدى الرئيس الحريري، الذي أعطى ثقة كاملة للجيش، وأعلن في مقابلة تلفزيونية له أن عليه «ضرب الزعران» في إشارة الى طرابلس وما يحصل فيها، وقد التزم بما أعلنه بعد تشكيل حكومة تمام سلام، وتسلّم وزيرين من تياره حقيبتي الداخلية نهاد المشنوق والعدل أشرف ريفي، وكانت إجازة عبور للجيش الى جبل محسن وباب التبانة، وهدأت المحاور فجأة وصدرت مذكرات توقيف شملت علي عيد ونجله رفعت كما قادة محاور، وبدأت القوى الأمنية ومخابرات الجيش تلاحقهم وتعتقلهم، تحت غطاء سياسي للجيش وليس للمسلحين الذين كشفوا في تصريحات لهم، أن مَن كان يحرّكهم قد تخلّى عنهم، مما يؤكّد أن معارك طرابلس كانت سياسية بامتياز، وهي موجهة الى الرئيس ميقاتي ليستقيل، وهذا ما أعلنه هو أيضاً واشار الى ان كل الخطط الأمنية التي اتّخذت في حكومته لم تنفّذ لانها كانت تستهدفه، وبعد تشكيل حكومة سلام توقّفت المعارك العسكرية بسحر ساحر.
ومع إزالة مظاهر الحرب في طرابلس، فإن الجيش والقوى الأمنية توجّهوا بقاعاً لإزالة بؤر السرقة والخطف والإرهاب في بريتال وعرسال وبعض المناطق، وقد نجحت الخطة الأمنية أيضاً، وكانت مطلب أهالي البقاع والفعاليات السياسية والحزبية والعشائر، بعد أن عانت المنطقة من اللصوص والمجرمين وفارضي الفدية والأتاوة، حيث أصبحت هذه المناطق مربعات للخطف وتفخيخ السيارات والقتل، إذ نجحت القوى الأمنية والعسكرية في توقيف شبكات إرهابية، وتمكّن الجيش من إعتقال أغلبية المتورطين في أعمال التفجير وإطلاق الصواريخ في بلدة عرسال وجرودها، وإلقاء القبض على الرؤوس المدبّرة، وقد ساعد التقدّم الذي حققه الجيش السوري في جبال القلمون المحاذية للحدود الشرقية للبنان وسقوط بلدات يبرود والنبك ورنكوس وغيرها، من إقفال مربعات الموت التي كانت فيها تُفخّخ السيارات المسروقة من بريتال.
لقد أثبت الجيش أنه ضمانة للسلم الأهلي، وأنه عندما يمتنع السياسيون عن تعطيل دوره ومهامه، فإنه قادر على أن يفرض الأمن، وهو في كل معموديات الدم التي فُرِضت عليه، بدءاً من معارك جرود الضنية في العام 2000، الى معركة مخيم نهر البارد في 2007، والى التصدّي لما حصل في أحداث 7 أيار 2008، وصولاً الى إقفال مربع أحمد الأسير في عبرا في حزيران عام 2012، ثم في إكتشافه لشبكات الإرهاب وتوقيف قادتها، وبعضهم مطلوب دولياً وعربياً، دفعت بعض الدول لاسيما الكبرى منها، الى تأمين كل مستلزمات الدعم له، فكانت المكرمة السعودية بثلاثة مليار دولار لتسليح الجيش وتجهيزه عبر فرنسا، وانعقاد مؤتمر في إيطاليا للدول المانحة للبنان، للتجاوب مع مطالب لبنان العسكرية التي تتيح له التصدّي بنجاح أكثر للإرهاب، وفي مواجهة حركة النزوح السوري الذي أضاف أعباءً بشرية واقتصادية واجتماعية وأمنية على لبنان، الذي لا يمكنه أن يواجه أزمة أكثر من مليون نازح سوري.
وهذه الإنجازات للجيش الذي لم يتوانَ عن التصدّي لإسرائيل كلما حاول اختراق الخط الأزرق عند الحدود مع فلسطين المحتلة، وتفكيك شبكات تجسس له واعتقال عناصرها وهو على تنسيق وتناغم مع المقاومة، مما فرض المؤسسة العسكرية مرجعية للبنانيين، المتعلقين بالأمن والإستقرار، وعليها يعقدون الآمال، في أن تمنع تهور السياسيين وانخراطهم في أي حرب جديدة، إذ تغيّرت النظرة الى الجيش الذي لم يعد فئوياً كما كان يصنّف قبل الحرب الأهلية في 1975، وهو صان الحريات عندما أفسح المجال لكل اللبنانيين في «8» و«14 آذار» أن ينزلوا الى الساحات للتعبير عن ارائهم بحرية دون صدام، وهو الذي كان يقدّم قادته على أنهم مرشحون دائمون لرئاسة الجمهورية في مواجهة طبقة سياسية فاسدة التي وصل إليها ثلاثة منه هم اللواء فؤاد شهاب، والعمادين إميل لحود وميشال سليمان، فهل يكون الرابع العماد جان قهوجي، في مسلسل النجاحات التي حققها الجيش بمواجهة الإرهاب وفرض الأمن وتحصين السلم الأهلي ومع تصاعد الفساد السياسي؟
Leave a Reply