بيروت – كمال ذبيان
باتت الأنظار متجهة الى المؤسسة العسكرية التي بدأت تشهد ومنذ أشهر عملية فرار محدود وغير مؤثر لعناصر منها يلتحقون بـ «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، وبلغ عددهم خمسة ويحملون رتباً بصفة جندي أو مجند، وتاريخ دخولهم الى الجيش لا يتعدى السنوات الثلاث أو الخمس وهم من لون مذهبي واحد من أهل السّنّة والجماعة، يتحدرون من الشمال ومناطق عكار وطرابلس، وهما المنطقتان اللتان تحدّث عنهما قائد الجيش العماد جان قهوجي فـي مقابلة صحافـية له مع «الفـيغارو»، وأشار فـيها الى وجود خلايا نائمة إرهابية للتنظيمين المذكورين فـيهما واحتضان لهما من بعض السّنّة، وأنهما يخطّطان لأعمال إرهابية فـي لبنان، ولإقامة «إمارة إسلامية» فـي الشمال يكون لها منفذ على البحر وترتبط لاحقاً بـ «الدولة الإسلامية»، حيث تزامن كلامه مع تعرّض جنديين للإغتيال فـي عكار قتل أحدهما ويدعى ميلاد محمد عيسى، وأصيب الثاني بجروح خطرة، وقد سبق هذه العملية، أن تعرّض خمسة جنود للقتل إما أثناء تواجدهم فـي مراكزهم العسكرية فـي طرابلس، أو وهم يتنقلون فـيها أو فـي عكار. والفرار من الجيش يحصل فـي كل الجيوش وفـي أوقات مختلفة ولظروف متعددة، ويتّخذ بحق الفار الإجراءات القانونية المناسبة وبدأ قبل أشهر وقبيل معركة عرسال بأيام، بفرار مجند يدعى عاطف سعد الدين من أحد المواقع العسكرية المتقدمة فـي وادي حميد البلدة التي هاجمها المسلحون فـيما بعد، يؤشر الى أن الجيش مستهدف من قبل الجماعات التكفـيرية لتفكيكه والعمل على إسقاطه، لتتمكّن من أن تملأ الفراغ مكانه، بعد أن تعم الفوضى ويحصل قتال وينتشر مسلحون، وهو أسلوب تعتمده هذه الجماعات فـي كل دول العالم التي تسعى لإقامة حكم إسلامي فـيها، فتركز ضرباتها على الجيش كما على القوى الأمنية لإنهاكهما ودب الذعر فـي صفوف العناصر كما الضباط وعائلاتهم، ليسهل الاستيلاء على السلاح والعتاد، والسيطرة على الأرض عسكرياً بعد إلحاق الهزيمة بالجيش، وهو ما حصل فـي الجزائر التي خاضت حرباً ضد «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لمدة عشر سنوات، وفشل المسلحون التكفـيريون من تحقيق أهدافهم وقد تكبّدوا وكبدوا الجزائر أكثر من مئتي ألف قتيل، ومازالت بؤرهم الأمنية وخلاياهم النائمة تقوم بإرهاب الجزائريين، كما فـي مصر وتونس وليبيا واليمن والعراق وسوريا ونيجيريا وأندونيسيا والقوقاز إلخ…
العريف عاطف محمد سعد الدين الذي أعلن إنشقاقه عن الجيش اللبناني وإنضمامه إلى «جبهة النصرة» |
وفـي لبنان يلجأ التكفـيريون الى الأسلوب نفسه، وهو من صلب عقيدتهم القتالية المعتمدة على الذبح والنحر والقتل والتخريب والتدمير، لإسقاط «دولة الكفر والجهل» وإقامة «حكم الله»، وهذا ما أظهره القضاء فـي التحقيق مع مَن سمى نفسه «داعية إسلامي» عمر بكري فستق الذي جاء من لندن إلى لبنان، وهو يعمل فـي طرابلس، على تعبئة المواطنين والشباب منهم تحديداً على أن يسيروا فـي خط «الإسلام الجهادي» الذي يعمل لإقامة «الخلافة الإسلامية» وهدم «دولة الكفر»، حيث اعترف أنه قام بتجنيد أشخاص وإرسالهم إلى سوريا للقتال فـيها ضد النظام، كما أعلن ولاءه لتنظيم «القاعدة»، وأنه سيضع علم «الدولة الإسلامية» على القصر الجمهوري فـي بعبدا، بعد أن سمى الجيش اللبناني بأنه كافر، وحرّم بقاء العناصر والضباط السّنّة فـيه ودعاهم للخروج منه، والفرار من صفوفه والإلتحاق بـ«جبهة النصرة» و«داعش» لأنهما يمثلان «جيش الإسلام»، وأن من أتباعه فـي طرابلس أسامة منصور الذي أقام فـي باب التبانة مع شادي المولوي وكلاهما مطلوبان للقضاء بجرائم قتل وتفجير، مربعاً أمنياً كانا ينطلقان منه لتنفـيذ عمليات قتل بحق عسكريين، واستهداف مراكز الجيش ودورياته، لنشر الرعب والذعر فـي صفوف العسكريين وعائلاتهم وشل حركة الجيش ومنعه من البقاء فـي طرابلس.
كل هذه التطورات تصاعدت منذ معركة عرسال التي قد تتكرّر المعركة فـيها كما أفاد العماد قهوجي الذي يؤكّد أن الجيش فـي جهوزية لمواجهة أي تطور عسكري قد يحصل، وأن عرسال – 1 لن تعاد إذا ما حاول المسلحون الهجوم على مواقع ومراكز الجيش التي أخذوها غدراً وتقدموا نحوها بآلاف المسلحين وبسند لهم أمّنه وجود آلاف النازحين السوريين فـي عرسال، إذ خرج نحو ألف مسلح من المخيمات وهاجموا حواجز ومراكز الجيش ومخفر قوى الأمن الداخلي، لكن بعد أقل من 14 ساعة كانت القوى العسكرية قد تمكّنت من استعادة ما خسرته، وأصبحت المبادرة بيدها ميدانياً، فأخلت عرسال من المسلحين، وحاصرت مخيمات النازحين وضبطت حركتهم واعتقلت المشبوهين منهم، كما عزلت البلدة عن جرودها التي لجأ إليها المسلحون وأقاموا فـي مغاورها، حيث يصعب عليهم الإقامة بسبب الطقس البارد لعلو المنطقة نحو 2000 متر وأكثر وسقوط ثلوج فـيها، مما قد يضطرهم الى افتعال معركة عسكرية ثانية للخروج منها ، ووضع الجيش جهوزيته لها، ورسم أمامه كل الاحتمالات.
فمَن فرّ من الجيش إلى «جبهة النصرة» و«داعش» اللتين خطفتا 27 عسكرياً ومعهم يجبرون اهاليهم على خطف لبنان عبر قطع طرقاته لتأخير ذبح أولادهم، فإنه بذلك خان قسمه ووطنه وجيشه، والتحق بجيش عدو بكامل إرادته وحرية قراره، لكن هؤلاء الفارين الذين لم يبلغ عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، لا يعتبرون منشقين عن الجيش، فهم حالات فردية محدودة ومحصورة وغير مؤثرة، لكنهم شكّلوا إرباكاً للمؤسسة العسكرية التي عليها أن تحتاط كثيراً، وتشغل أجهزة مخابراتها الأمنية والعسكرية للإطلاع على تحركات العسكريين من كل الرتب وأخذ الاحتياطات اللازمة، إذ أن تكفـير الجيش واعتباره صليبياً وفـي بعض الأحيان رافضياً – شيعياً – والتحريض عليه سياسياً من قبل نواب فـي الشمال فـي مقدمتهم خالد الضاهر الذي دعا إلى «خروج السّنّة» منه، وحذّر من «ثورة السّنّة» كما حصل فـي غرب العراق، حيث خلق هو ونواب آخرون، مع رجال دين مناخاً تستغله الجماعات التكفـيرية وتحرّض على الجيش الذي يستهدف شباب السّنّة، كما يرد فـي بيانات ومواقف وتصريحات النائب الضاهر و«هيئة العلماء المسلمين» وغيرهم، والحديث عن «مظلومية أهل السّنّة» دون أن يذكروا ممن يأتي هذا الظلم، حيث يتربّع السّنّة على عرش السلطة وتحديداً «تيار المستقبل» الذي يترأس الحكومة منذ أكثر من عشرين عاماً، مع الرئيس رفـيق الحريري وبعد اغتياله مع فؤاد السنيورة، ثم سعد الحريري وتمام سلام، وتسلمه وزارات سيادية وخدماتية، والتحكم بالوضع فـي لبنان، حتى فـي زمن الوجود السوري الذي عزّز النظام السوري وضع الحريرية السياسية، كما ساهم فـي أن يكون السّنّة شركاء حقيقيون فـي الحكم عبر تقليص دور رئيس الجمهورية وتحرير رئيس الحكومة من أن يسميه ليكون خاضعاً له، فقيّده باستشارات نيابية ملزمة، وحوّل مجلس الوزراء الى مؤسسة، فـيكون السّنّة ليسوا فـي موقع المظلومية، بل فـي الموقع القوي الذي تتبع مؤسسات لرئاسة مجلس الوزراء، تضعه رقماً صعباً فـي مركز القرار.
والجيش خاض أربع معارك ضد الإرهاب منذ أحداث الضنية عام 2000 مروراً بمخيم نهر البارد ومن ثم عبرا ومؤخراً عرسال، فوُضع على لائحة التصفـية من قبل الجماعات التكفـيرية، وهم لا يستطيعون اسقاطه من الداخل عبر شق كتيبة أو سرية أو فوج أو لواء، لأن الجيش متماسك وله عقيدة قتالية، وأثبتت الأحداث أنه محصّن من حصول انشقاقات فـيه على غرار ما حصل فـي أثناء الحرب الأهلية، إذ تشرذم وانقسم وتطيّف وانهار، وساهمت فـي فرطه آنذاك قوى خارجية متحالفة مع قوى داخلية، عندما كانت لا ترى الجيش يعمل لصالحها، وأن ما كان ممكناً فـي العام 1975 وهو تاريخ اندلاع الفتنة فـي لبنان، لا يصلح فـي هذه المرحلة، لأن اللبنانيين كانوا منقسمين على دور الجيش والمهام التي يكلف بها داخلياً، فكانت الاحزاب اليسارية والشخصيات الاسلامية وفـي طليعتها روؤساء حكومات ودار الفتوى ترفض ان يتعرض للمقاومة الفلسطينية فـي حين أن أطرافاً لبنانية من الأحزاب اليمينية كانت ترفض تسليحه بمواجهة العدو الإسرائيلي تحت ذريعة «قوة لبنان فـي ضعفه» لكن الجيش يحظى ومنذ سنوات بإجماع وطني حول دوره، سواء فـي التصدي للعدو الإسرائيلي، أو مقاتلة الإرهاب التكفـيري، حيث المطالبة بتسليحه تحتل الأولوية عند كل الأطراف اللبنانية دون استثناء وفـي الطليعة تيار المستقبل الذي كان لرئيسه سعد الحريري موقفا متشددا من الذين يتعرضون للجيش ولو كانوا من تياره او فريقه ودعاهم للانفكاك عنه ، كما أن القوى الإقليمية والدولية متفقة على تسليحه وإن اختلفت وجهات النظر حول نوعية السلاح، إلا أن الدول المختلفة فـيما بينها اتفقت على تسليح الجيش بهبات، فقدمت السعودية 4 مليارات دولار، وأعلنت إيران عن هبة بحاجات الجيش من السلاح، ولم تتأخر أميركا فـي تقديم المساعدات ولو محدودة نوعية وكمية كي لا تغضب «إسرائيل»، فإن الجيش الذي تحاول الجماعات التكفـيرية العمل على فرطه من الداخل بإغراء عناصر على الفرار منه، أو بالعمليات الإرهابية ضده، فإن القرار اللبناني الداخلي هو الحفاظ على المؤسسة العسكرية ووحدتها وتأمين الغطاء السياسي لها، تحت سقف دعم خارجي لها، وهو ما سيفشل محاولة إعادة عقارب الساعة الى الوراء أربعين عاماً عندما حصلت إنشقاقات فـي الجيش بدأت مع «جيش لبنان العربي» بقيادة الملازم أحمد الخطيب ودعم حركة «فتح»، ثمّ كرّت سبحة الخروج على المؤسسة العسكرية، فاستمالت «إسرائيل» الرائد سعد حداد ليصبح فـي عداد قواتها كعميل وخلفه انطوان لحد، ثم لجأت الطوائف والمذاهب أيضاً الى اقتسام الجيش الى ألوية طائفـية ومناطقية.
فالجيش فـي لبنان اختبر الإنقسامات فـي الأزمات الداخلية والصراعات السياسية بين أقطاب الطبقة السياسية، أما فـي حربه مع الإرهاب ومنع سقوط الدولة اللبنانية، فإن وحدته أقوى من أن تخرقها عمليات فرار محدودة لعناصر، رفضتهم عائلاتهم وتنكّرت لهم بلداتهم، ولم يلقوا الاحتضان إلا من الذين كفّروا الجيش وبهم إلتحقوا…
Leave a Reply