«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
ليس من السهل على الذين يتولون كتابة تاريخ الأمم والشعوب، والثورات الشعبية العاصفة التي تقتلع الأنظمة وأربابها من الجذور، ليس من السهل على هؤلاء جميعاً وهم يدونون التاريخ أن يلموا بكل شاردة وواردة من تحركات الناس والجماعات وما يتم بين هذه الشرائح البشرية الناقمة من عهود ومواثيق وإتفاقات كل ذلك من أجل أن يحيطوا بالحدث مهما كان حجمه صغيرا أو كبيرا، هذا ان استطاعوا في كثير من الأحيان أن يؤدوا مهماتهم على وجهها الأفضل.
لذلك نرى، أن ثورات الأمم والشعوب كثيرا ما تقع، عند ساعة الصفر وعند البدء بتحقيق الخطوة الأولى، في أخطاء كبيرة، كثيرا ما يكون لهذه الأخطاء أثرها الجسيم والباهظ، وتساعد على إعادة الزمن إلى الوراء، بشكل محزن وكئيب.
وليس أدّل على ما نقوله هنا إلا أن نروي ونبين الأثار البليغة التي أحدثتها غلطة كبرى وقعت فيها المجموعة الإنقلابية – أول إنقلاب حدث في اليمن – غلطة كان للسيف الممسكة به يد الجلاد الكلمة الفصل في تلك المأساة التي وقعت أثر إنقلاب عام 1948 في اليمن.
ثورة قامت ثم تلاشت بسبب الإهمال
بداية ثورة عام 1948
لقد قام بهذه الثورة المشايخ وهم أصحاب القول الفصل يومذاك في كل صغيرة وكبيرة وكذلك العلماء – علماء الدين الذين لا يقلّون أهمية عن المشايخ – وكلهم باتوا في ذلك الزمن أصحاب الرأي والقرار وكذلك بعض الضباط. وإلى جانب هؤلاء قادة الجيش يومئذ، الذين أسهموا إسهاماً واضحاً في تحقيق الضربة الأولى لنظام آل حميد الدين. ومن أبرز المشايخ الذين خططوا ونفذوا الشيخ علي ناصر القردعي شيخ مشايخ آل مراد. والشيخ سالم جرعون شيخ مشايخ رداع. ومحمد الحورش ومحي الدين العنسي، ومحمد محمود الزبيري، وقائد الجيش جميل جمال وهو ضابط من أصل عراقي جاء لتدريب الجيش اليمني، فأصبح فيما بعد قائدا للجيش والعديد ممن أسهموا في عملية إغتيال الإمام يحي والقيام بتحقيق أول إنقلاب ضد الإمام يحي بن حميد الدين.
لقد اتفق هؤلاء وغيرهم على إسقاط نظام الإمام يحي وعلى أن يتولوا جميعا قتله وإنهاء نظامه إلى الأبد.
لقد اعتاد الإمام يحي أن يتجول بسيارته يوميا إلى ضواحي صنعاء الشمالية والغربية وإلى منطقة مخضرة دائما وكان يسميها الإمام (دورة) بمعنى نزهة. لقد أكدت الأرصاد والعيون التي تولت مراقبة الإمام يحي في تحركاته وتمشياته، أنه سيتوجه اليوم في دورته هذه نحو حزيز بمنطقة سنحان، وقررت الجماعة تحديد ساعة الصفر لتنفيذ العملية فارتدوا لباس النساء وركبوا سيارات مموهة، وتحركوا نحو نقطة الهدف وقاموا بقطع الطريق وبوضع الحجارة للحؤول دون مرور سيارة الإمام بسهولة، وهناك توزعوا يمنة ويسرة، حتى إذا ما وصلت سيارة الإمام يحي إلى حاجز الحجارة نزل السائق ليبعدها عن الطريق من وسط الشارع بعيداً وفيما كان السائق منهمكا في إبعاد الحجارة، هبّ القوم من اليمين واليسار والإمام جالساً بداخل السيارة ومعه طفلين هما الحسن والحسين، أولاد إبنه الحسن وكان مع الإمام ساعتئذ رئيس الوزراء عبد الله العمري فتم قتل الإمام ورئيس الوزراء بما فيهم الأطفال الصغار أيضا.
الغلطة الكبرة
التي غيرت مجرى التاريخ
إذن، تم قتل الإمام ورئيس وزرائه وإثنين من أحفاده وتناولت الوكالات العالمية أخبار إغتيال الإمام يحي ومن معه، وحدوث الإنقلاب على نظام الإمام وربعه وتسمية الشيخ عبد الله الوزير إماماً وهو إبن السبعين عاماً وقام العلماء والمشايخ وقواد الجيش لتولي مهام تسيير شؤون الدولة بعدما نصبوا عبد الله الوزير إماماً ورئيساً للوزراء وتم توزيع المناصب الوزارية والوظائف العسكرية كما تم إعتماد العديد من الشخصيات ليكونوا الواجهة الرسمية للعهد الجديد بعد إغتيال يحي ومن معه.
من كان يحكم عدن؟
طبعاً، كانت بريطانيا هي الدولة «المحبة» للأمة العربية والإسلامية يومئذ وهي الجهة المفروض أن تتولى رعاية العرب والمسلمين في ذلك الزمان دون سواها أن بريطانيا «الحنونة» هي الأولى بالرعاية والإنتباه.
لقد تم تنصيب عبد الله الوزير إبن السبعين عاماً إماماً لليمن بدعم بريطاني من خلف الستار وكان العالم العربي يومئذ يسبح «في نعماء» الإحتلال البريطاني لمعظم أجزاء الوطن العربي الممزق! إذن، قام النظام اليمني الجديد بقيادة عبد الله الوزير وتم تشكيل الحكومة العتيدة واتخد قصر غمدان ليكون مقراً للإمام وللدولة ووزرائها.
أخطاء قاتلة
هنا تبرز الأخطاء الجسيمة والكبرى لتفرض رأيها ومقرراتها مهما كلف الأمر. حينما وقع الإنقلاب في اليمن وتمت العملية التي خطط لها بإحكام ونجاح كان أحمد إبن يحي وهو الإبن البكر للإمام يحي كان هذا الثعلب موجوداً في عدن يمضي «الويك إند» في عدن وما فيها تحت رعاية بريطانية «كريمة» جدا.
لقد نسيت هذه المجموعة الإنقلابية التي أطاحت بالإمام يحي نسيت وفيها من فيها من الحكماء والعقلاء والضباط والقادة لقد نسي هؤلاء جميعاً أن أحمد إبن الإمام يحي لم يُقتل مع والده، لأنه لم يكن موجوداً معه ساعتئذ وإنما كان يسرح ويمرح في عدن، لذا نجا من الموت على أيدي هؤلاء الأحباب.
لكن هؤلاء «الأحباب» هل نجوا هم من سيفه ومن جلاديه ومن قطع الرؤوس؟ وتعليق الجثث على فروع وأغصان الشجر؟ طبعاً لم ينج هؤلاء من عقاب أحمد بن يحي الذي كان في عدن، وكان لهم عقاباً شديداً.
مهمة أحمد تكللت «بالنجاح» فـي عدن
تحرك أحمد بن يحي من عدن باتجاه اليمن وكان هو وليا للعهد حكماً ولم يتحرك وهو حاني القدمين ويداه خاليتان من كل أسباب الموت الزؤام.
أحمد بن يحي حميد الدين
يمشي على خطى نيريري فـي كينيا
بدأ يجمع فلول القبائل وكل عاطل عن العمل ليجنده في جيشه الذي أخذ يعد العدة لمهاجمة الأعداء في عقر دارهم، ولما اكتمل استعداد أحمد وتجهيز جيشه الذي ضم كل العاطلين عن العمل والحاقدين على النظم العربية العفنة وعلى أربابها، وبعد أن تلقى أحمد بن يحي المساعدات المادية واللوجستية والعسكرية من مصادر عديدة تحرك. نعم، تحرك أحمد بن يحي على رأس جيش تم تشكيله من فئات حاقدة ناقمة يكاد يفتك بها الفقر والجوع والمرض تحرك وجاءته الأنباء أن العاصمة صنعاء عصيّة عليه وعلى جيشه لذا رأيناه يتوجه إلى حجة لأنها مدينة غير محصنة جدا.
وكان من الخطأ الكبير أن تستهين المجموعة الإنقلابية التي أمسكت الحكم من بعد قتل الإمام يحي بوجود أحمد في عدن، بل كان من المنطقي جدا أن توفد «بعثة» قتالية لإغتيال أحمد وهو في عدن، لا أن تدعه يستعين حتى بالشياطين ليستعيد ملك أبائه وأجداده.
وحين تحرك أحمد من عدن على رأس جيش عرمرم من المفلسين، كان أول ما فعله أحمد أن قام بمحاصرة صنعاء العاصمة، واستمر الحصار مدة طويلة، حتى ضعفت معنويات الثوار بسبب الحصار الشديد، يومئذ استغلها أحمد فرصة وأعلن أن صنعاء هي لهم وأنه لا مانع لديه من نهبها وأخذ ما يريدون منها وأن يقتلوا من يريدون قتله.
وبالفعل، فلقد تمت عملية سقوط صنعاء وتهاوى فيها النظام الجديد، واستطاع جيش أحمد أن ينهب صنعاء وأن يدخلوا البيوت وألا يدعوا شيئاً إلا ونهبوه، ثم اضاف أحمد إلى ذلك أنه أعلن أن جميع المدن اليمنية هي وما فيها حلالا زلالا لهم وشهدت اليمن آنذاك أبشع عمليات النهب والسرقة والقتل والإغتصاب وتم تدمير البيوت والمنازل وتشريد العائلات المستورة، وبعد قليل أعلن عن سقوط صنعاء بيد أحمد وبأيدي رجاله «الشرفاء جدا».
بعد سقوط صنعاء، ماذا بقي للإمام عبد الله الوزير ومساعدوه من الوزراء والوجهاء وماذا بقي لنظام الحكم الذي تهاوى تحت ضربات أحمد وجيشه.
بداية الإعتقالات
طبعاً، وبعد أن استتب الأمر لأحمد وجيشه تم إلقاء القبض على الحورش ومحي الدين العنسي وجمال جميل قائد الجيش وعلي ناصر القردعي ومحمد جرعون وألقي القبض على الشيخ عبد الله المطري شيخ بني مُضر والشيخ الفولة في حاشد وتمت محاكمتهم محاكمة شكلية وصورية ثم تم إعدامهم في ميدان الكرة في مدينة تعز باستثناء الشيخ والأديب الكبير محمد محمود الزبيري الذي قابلته لاحقاً في صنعاء، لقد نجا الزبيري من الإعدام بسبب أنه فرّ إلى عدن ومنها توجه إلى مصر ثم إلى باكستان حيث أقام فيها قرابة عقدين من الزمان فقط.
طبعاً، لقد حاصر أحمد مدينة صنعاء، وقضى على الشعلة الوطنية التي حملها أولئك الذين قاموا بالثورة ضد الظلم وأربابه، وكانت النتيجة أن أعدموا بسيف الجلاد أحمد بن يحي.
لقد حرّم أحمد على نفسه أن يدخل صنعاء بل جعل عاصمة خلافته مدينة تعز حيث اتخذ منها مقرا وعاصمة لملكه وسكن في القصر الملكي في الحجملية ثم بني قصر صالة واستقر به حوالي عشر سنوات، وقد حفلت تلك الفترة بالكثير من المشاكل والمتاعب التي أدت فيما بعد إلى محاولة إغتيال أكثر من مرة حتى قضى الله أمراً كان مقدراً. وإلى حلقة قادمة إن شاء الله
في الحلقة القادمة: من هي الملكة أروى بنت أحمد الصليحي؟ ولماذا رفضت الزواج من القائد صلاح الدين الأيوبي؟ ولماذا بقيت عزباء بعد وفاة زوجها الذي مات وهو إبن عشرون عاماً فقط؟
Leave a Reply