محمد العزير
عاتبني صديق، لا يحتاج إلى شهادتي في صدقه ومصداقيته وإخلاصه، على مقالتي في العدد السابق من «صدى الوطن» تحت عنوان «محنة اليسار المشرقي». سألني مباشرة: «أليس من الإجحاف التحامل على تجربة فريدة في التاريخ الإنساني؟ تجربة عرّفت العالم على نظام مختلف من الحكم لا يقوم على الوراثة والألقاب، حتى في روسيا التي لا جدال في دموية ستالين فيها، ألم تنتقل خلال أربعة عقود من دولة زراعية إلى دولة نووية؟».
بالطبع لم يرق لصديقي أن أشمل كاسترو بالنقد فـ«كوبا تبقى أفضل التجارب الاشتراكية». لم ينس صديقي أيضاً، في حديث مطول، أن يذكرني بخلفيتي الشخصية في هذا المجال ليتساءل: «هل فقدت الأمل بالغد الأفضل وإرادة الناس؟». وعدت صديقي أن أجيبه خطياً، لأن السؤال الذي طرحه لا يقتصر عليه، ومن حقه وحق من شاء من الأصدقاء أن يسألوا، ومن حقي أن أجيب.
الحق يقال يا صديقي، أن المسافة بين اليسار وبين الديكتاتورية أقرب من حبل الوريد. هذا ينطبق على أكبر التجارب في روسيا والصين وعلى أصغرها من كمبوديا والخمير الحمر إلى الرفاق في عدن الذين أفنوا بعضهم بعضاً إلى منغيستو هايلي مريام في أثيوبيا، مع المرور الاضطراري بنيكولاي تشاوسيسكو في رومانيا والنظام الملكوتي العجيب في كوريا الشمالية. الديكتاتورية هنا لا تمت بصلة إلى «ديكتاتورية البروليتاريا» التي بشّر بها كارل ماركس وفريدريك إنغلز في البيان الشيوعي عام 1848، إنما هي أسوأ أنواع القمع والتنكيل الجماعي المستند إلى عقيدة «مريبة» تعفيه من المساءلة الأخلاقية أو الإنسانية، بل تتوهم مسوغاً مبدئياً ينفي إنسانية الضحايا ويجردهم من أي حق في الحياة أو الرأي أو الاختلاف لأنهم «خونة» أو «عملاء» أو «أعداء».
على الورق، الاشتراكية جذابة ومحببة، كما كل العقائد جميلة نظرياً، ليس هناك في الأدبيات العقيدية ما ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور لـ«الجماهير»، حتى أدولف هتلر في كتابه التافه «كفاحي» بشّر بأيام مشرقة للشعب الألماني، ولم يتوعد بمحرقة لليهود الذين اعتبرهم مشكلة المشاكل. محنة اليسار يا صديقي أنها بصدق عقيدة مجدية قابلة للتطبيق، وكما يتضح من التجارب الاشتراكية الأوروبية، على وجه الخصوص، التي كان الشيوعيون يحقّرونها ويعيبون عليها أنها «نصف أممية»، يمكن للمراقب أن يلحظ المزايا الإيجابية للحد من الرأسمالية المتوحشة وجشع الأثرياء وامتيازات ورثة الألقاب والسلالات العائلية. والحق يقال إن اليسار وصل إلى السلطة ومنحه الناس ثقتهم ومقدراتهم ومواهبهم، فماذا فعل؟ لن أكرر عشق لينين ورفاقه من «البروليتاريا» لأفخر أنواع السيارات الرأسمالية، ولا لمعيشتهم التي فاقت بذخاً وترفاً ومجوناً أكثر القصور الملكية والقيصرية. كان الرفيق لينين يعيش في بيت واحد مع زوجته نانيجدا كروبسكايا وعشيقته إينيسا آرماند زوجة كبير الصناعيين الروس والأم لأربعة أطفال، وكان يحرص على الظهور معهما في المناسبات العامة.
هذه قصة تفتح الباب أمام تعامل اليسار مع المرأة وحقوقها، وهو ما أولاه كارل ماركس الكثير من اهتمامه وصبّ جام غضبه على الرأسمالية «الحقيرة» التي تهمّش المرأة، لم يكن لدى الثورة البلشفية المشغولة بقضايا أكثر مصيرية الوقت الكافي للبت في هذا الأمر إلى أن ورث الرفيق جوزيف ستالين الشيوعية وعمد دون تردد إلى وضع قوانين تمنع الإجهاض وتشدد إجراءات الطلاق لصالح الرجال وتحرّم الجنس خارج مؤسسة الزواج، وتخصيص صفوف البنات في المدارس بحصص لتدريبهن على الأعمال المنزلية والتأهل لدور زوجات وأمهات. الأمر الأخطر من ذلك أن العمّال المفترض أنهم حجر الرحى في كل التجربة الجديدة، وأصحاب الحق الذي لا يتجزأ في تقرير مصير المجتمع، مُنعوا من التعبير عن رأيهم بالجملة (عبر اتحادات ونقابات) أو بالمفرق (عبر مواقف وآراء). اجترح الرفيق ماو تسي تونغ سابقة في تاريخ العمل السياسي؛ شجع الناس على التعبير عن آرائهم بحرية على صحف جدارية لتكون متاحة للجميع. كان مخبروه وعسسه قرب كل جدارية يبلغون عن المعترضين ليتم القبض عليهم وإخفائهم. ذات يوم قرر الرفيق ماو التخلص من العصافير لأنها تأكل من حبوب الحقول. أعطى مكافأة لمن يقتل عصفوراً. خلال موسم واحد انتشرت الحشرات والطفيليات التي كانت العصافير تقضي عليها وفسد المحصول مسبباً مجاعة أودت بحياة ستة ملايين صيني على أقل تقدير. ماذا فعل القائد الفذ؟ أعدم نائبه ليو شاو كي، المناضل المشهود له بإسهاماته الفكرية ومقدراته التنظيمية لأنه قال في مؤتمر حزبي إن سياسة قتل العصافير أدت إلى المجاعة.
هذا، يا صديقي، يسار حوّل أحط الأنظمة الملكية إلى مرتجى. في الأنظمة الملكية سياق يلتزم به أصحابه. ومهما قيل في المنسوب الأخلاقي أو الحداثي لذلك السلوك يبقى سلوكاً ذا معالم معروفة. هناك النبل والشهامة والمسؤولية عن الرعية والفروسية والمرجعية التي لا تلقي المسؤوليات على الآخرين وتغسل أيديها. من لا يلتزم بتلك الأصول ينكشف أمره آجلاً إن لم يكن عاجلاً. لكن في أنظمة اليسار الديكتاتوري، وكل اليسار، ديكتاتوري، يا صديقي، لا مرجعية ولا مراجعة. أباد بول بوت أربعة ملايين من شعبه، فقط ليثبت نظريته «الفذة» أن النزوح من الريف إلى المدينة أمر سيء. وفي جمهورية الرفيق المحبوب كيم إيل سونغ، قرر ولده الوريث كيم جونغ إيل أنه لا يستخدم المرحاض ليتغوّط فهو لا يحتاج إلى ذلك لأنه لا يأكل تضامناً مع شعبه الذي يتعرض للمجاعة. كان إيل والد «القائد» الحالي كيم جونغ أون يستورد أفخر أنواع المأكولات البحرية والمشروبات الروحية من أوروبا أسبوعياً.
وحتى في بلادنا البائسة، مات باسل الأسد ابن الرئيس الأبدي حافظ الأسد (الذي دخل المدرسة الحربية عام 1950 لأن عائلته لم تكن قادرة على تأمين كلفة دراسته الطب في الجامعة اليسوعية في بيروت) في حادث سيارة «لامبورغيني» ثمنها يساوي 200 ضعف الراتب السنوي لقائد الجيش السوري، فيما كان عدي الابن الأكبر لصدام حسين البعثي الاشتراكي يطوف كل نهاية أسبوع على أعراس الميسورين من العراقيين فإن راقت له عروس أمر مرافقيه بإنزالها عن مرتبتها لـ«يدخل بها أولاً باسم الوحدة والحرية والاشتراكية». وكان العقيد معمر القذافي الذي أوكله صاحب «الإتحاد الإشتراكي» جمال عبد الناصر أمانة «الوحدة العربية» يسلّي ضجره ليلاً بإعدام نزلاء سجونه من المعارضين بالجملة، ولا يزال الرئيس السابق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الاشتراكية طبعاً) علي ناصر محمد يعيش حياة الأثرياء بعد أكثر من 36 سنة على تركه سلطة العمال والفلاحين!
يا صديقي لا أكتب شماتة ولا كيداً. أمثالي ليس لهم أمل إلّا في نظام أقل تغوّلاً في سلوكه وأكثر عدالة بين الناس. أكتب من إحساس مرير بالخيبة والإحباط لأن ما اعتقدته يوماً خشبة خلاص لم يكن ألا خشبة صليب للشعوب تدق مساميرها بحماسة بالغة، «كلابُ» جورج أورويل التي تخاف من خنازير (مزرعة الحيوان) وتعيش على أكتاف بقية أصحاب النوايا الحسنة الذين يلومون أنفسهم ألف مرة قبل أن يجرؤوا على لوم القادة. هل تعلم يا صديقي أن الرئيس الاشتراكي لنيكاراغوا التي تضامنّا معها بشده في وجه الغطرسة الأميركية، الرفيق دانييل أورتيغا، لم يجد في كل الرفاق والشعب من يقدر على تحمل عناء المسؤولية من بعده إلا زوجته الكريمة؟ هل أعيد عليك سيرة ما فعله الرفيق الاشتراكي في زيمبابوي روبرت موغابي (بقي في الحكم 38 سنة) برفيق دربه ومؤسس حزبه جوشوا نكومو عندما وصل إلى السلطة؟
إنها محنة اليسار يا صديقي، «اليسار المحترف»، كما وصفه ذات يوم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي لم ير اليسار فيه وفي انتخابه سوى لعبة «إمبريالية» لتلميع صورة أميركا! إنه اليسار الذي يمتهن العداوات والسلبية واللغة الخشبية.
في كوبا يا صديقي، إن زرتها، ستجد أن زبانية السلطة المهيمنين على السوق السوداء مستعدون لبيعك أي شيء من بشر وسيجار وحجر مقابل حفنة من دولارات الأعداء، فأي مثال يحتذى إن كان حلم معظم الكوبيين الوصول إلى شواطئ أميركا على متن قوارب مطاطية سبقت قوارب العرب والمسلمين التي تغرق في البحر المتوسط بعقود، مع فارق بسيط؛ أنهم ما كانوا يهربون من حروب أهلية ولا مجازر ولا إبادات، بل كانوا يبحثون مثلك ومثلي عن غد أفضل ومعيشة أفضل وعسس أقل.
أما عن التقدم والانتقال من البدائية الفلاحية إلى الاقتصاد الصناعي فهناك في العالم أمثلة كثيرة على تجارب حققت ذلك دون إعدام وقمع وإهانة ملايين البشر، من كوريا الجنوبية إلى إندونيسيا إلى الهند، وحتى الصين الشيوعية لم تتمكن من إيقاظ العملاق فيها قبل أن تتخلى عن موبقات الزعيم ماو وثورته الثقافية، وهو كان شخصياً لا يسافر إلا ومعه حريم مصغر من الفتيات المراهقات ليستمتع بشعبه المحب.
Leave a Reply