مثل كل المخلصين لأداء واجبهم، كان الإمام موسى الصدر طاقة تتفجر بالحب ولم تتوقف عن العطاء حتى بعد تغييبه. كان رائداً في أدائه وفي إنشائه للكليات العلمية والعملية. غرس بذرتها الأولى في مدينة صور التي كانت مدينة مهملة يلفها الفقر والحرمان، رغم إنها من أعرق المدن التاريخية في العالم القديم. تلك البذور أنبتت وأثمرت شباباً يتدفق بالحيوية والإخلاص والإنتماء الديني والوطني الممتليء محبة ورحمة وكرامة. ولن أتوقف كثيراً أمام الإنجازات والبصمات المضيئة التي تركها الإمام موسى والتي ما زالت تتألق بعد ثلاثون سنة على تغييبه. لقد صنع مدرسة باقية وسوق تبقى جيلاً وراء جيل ما بقي الحب!
يعتبر الإمام موسى الصدر نموذجاً نادراً من البشر. فذ الموهبة عظيم العطاء عالماً يملك حس الشباب وحكمة الشيوخ والعلماء. كان جم التواضع. صديقاً للصغير قبل الكبير، رجل دولة، مفكراً ومبتكراً وباعثاً على حركة الإستفادة من العلماء والمغتربين اللبنانيين في الخارج ومنارة لبنانية عربية عالمية عبر زياراته لكل بلاد العالم حاملاً مشعل صدق الكلمة، ونزاهة القصد ووطنية العطاء وقمة الأداء في إلقاء المحاضرات بأسلوب راقي وحضاري طلباً للدعم المعنوي والمادي للبنان. وقد تم إختطافه وإقصائه عن أداء ذلك الدور خلال جولة من جولاته العديدة في سبيل خدمة بلده ومواطنيه. تلك هي أقدار الرجال الذين اتخذوا من العمل عبادة واختاروا أن يقضوا تضحية في محاريب العطاء وخدمة الدين والدنيا.
أحمد الله وأشكره أنني كنت واحدة من الذين نشأوا على كلمات وتوجهات الإمام الصدر، فعصمني ذلك من هوى النفس وغدر الأيام. ولا شك أن كلماته سوف تنتقل من جيل إلى جيل، ومن عقل إلى عقل. مهما طغت التفاهات والسخافات وعودة الخرافات إلى العقول والأذهان. تبقى تلك الكلمات خالدة لأنها رققت قلوباً كساها صدأ الدنيا وغرورها، وكسرت الحاجز العازل بين أتباع الطوائف وجعلت الجميع يحب وطنه لبنان. كانت لدى الإمام موسى الصدر القدرة على إيقاظ أنبل ما كان فينا وإقناعنا نحن اللبنانيون والطائفة الشيعية خاصة، إن البذرة الوطنية والمحبة المضيئة وإتباع نهج الإمام علي عليه السلام لم تَمُتْ بعد في صدورنا، وأنها أصل طيب لجيل بعيد عن الطائفية والعصبية.
كانت ثقافة الإمام الصدر وعلاقته ومعارفه الواسعة مثار تململ وإزعاج للكثيرين من الزعامات وقتذاك، بدل أن تكون مثار إعجاب. كان رجل وطن، لم يكن يتقبل بسهولة حجم لبنان الجغرافي. لقد آمن دوماً بأن لبنان أكبر من حجمه، وأن هذا قدر للبنان وليس خيار. سعى أن يكون لبنان، ذلك الوطن الصغير الجميل بجغرافيته وتكوينه، الكبير بأبنائه الشرفاء المخلصين، أراده الإمام أن يكون وطناً متقدماً في العروبة وأن لا يكون تابعاً لها. أدرك فارق الثقافة والإستقلال والضمير الخلقي لكل لبناني، إحترم واستوعب تلك الفروقات محفزاً إياها للتعلق بجوهر لبنان بصفته كيان ذات خصوصية إيجابية مثمرة.
كانت لدى الإمام الصدر القدرة والطاقة الهائلة في العمل والتفكير والتحرك والحلم. تصرّف دائماً وكأن العمر الواحد لا يكفي لرجلٍ مثله فأراد أن يكون أعماراً كثيرة معاً. كان لا يتقن العمل منفرداً فحسب، بل يعرف كيف يجنّد الآخرين في العمل الجماعي، وتصويب ذلك العمل لمصلحة الجميع والكل، كواقع ومنهج للحياة وليس خطاباً وتنظيراً فقط. فوق ذلك، كان الإمام الصدر من أولئك القادة الكبار، الذي لم يكن يشعر العاملون معه بأنه زعيم أو قائد لشدة تواضعه وتفانيه وملامسه آلام وعذابات وهموم من حوله. بنفس إبتسامته الجميلة وكلماته الحلوة ويده الودودة. كان حديثه إلى أصغر عامل لا يختلف عن حديثه مع وزير. كان إماماً متعته العطاء ورسالته خدمة الآخرين.
حب العمل والتفاني في إتقانه، والإقبال على الخدمة العامة دونما سعي إلى منفعة شخصية، جعلت منه معلماً فذاً لأجيال عدة. قضى معظم سنواته في لبنان في جهاد مناضل وعناد مستميت في سبيل قضية المحرومين والفقراء من كل اللبنانيين، فنال وسام محبة الناس وتقديرهم. ربما يكون السيد موسى الصدر جمعاً من الأشخاص صنع ملحمة التقارب الطائفي بين الأديان جميعاً وكان مثالاً حياً لرجل الدين وكيف يجب أن يكون: مؤثراً إيجابياً لطائفته، يتغافل بقدرة عجيبة عن الإساءات الشخصية، ويقدّر خصومه والمعارضين له من داخل الطائفة أو خارجها.
أواسط السبعينات صار لبنان هو القضية ولم تعد فلسطين وحدها رمز الضياع العربي. كثفت إسرائيل إعتداءاتها على جنوب لبنان، وزادت جرعة تغذيتها للفتنة الطائفية التي سعى الإمام إلى تطويقها وإلغائها ببث روح المحبة والوطنية بين الجميع. كان لبنان – وما زال حتى الآن – هو الخاسر الأكبر. وباتت آذان اللبنانيين لا تسمع، والضمائر دخلت في غيبوبة، وباتت بحاجة إلى ضمائر أخرى تهزّها حتى لا تبنى وطناً للمجهول والتمزق الطائفي أو التفرق الحزبي، كان الإمام ضد سقوط لبنان فداءاً للقضية الفلسطينية، وللخلافات العربية وما أكثرها. كان الإمام ينادي بأعلى صوته أن لبنان بحاجة لشيء أقوى من السلاح. اللبنانيون بحاجة للمحبة والوحدة وقبول الآخر في الوطن، وكسر حواجز الخوف بين الطوائف وتكريس ذلك الجهد الضائع بينهم ليكون طاقة خلاقة تبني وطناً على أسس من الديمقراطية المتينة والقوانين والنظام. كان يؤمن إن فقد لبنان نظامه السياسي ونسيجه الطائفي، لا يعود هناك ما يبرر بقاء لبنان بالنسبة إلى شعبه أو إلى الآخرين. لم يؤمن يوماً أن السلاح يستطيع حل الأزمة، لا بل يزيد في تمزيق الوطن وتفريقه. وإحتجاجاً منه على الحرب العبثية التي عصفت بلبنان سنة 75، أعلن الإمام الإعتصام والصيام ليعبّر عن إعتراضه ضد اليسار واليمين، ويعلن تأييده للوطن. كل الوطن لبنان. رغم أصوات المدافع والمحاربة له والتشكيك في نهجه ومضايقة أصحابه. أخذت تتصاعد وتتحول إلى موجة مسعورة منفرة.
لأن سنوات الفرح والعطاء قصيرة في الذاكرة والقلب، تبقى ذكرى تلك السنين كحبة الليمون والسكر تحت اللسان. ويمكن وصف سنوات الإمام وعطاؤه قبل أن يتم إختطافه، بسنوات الخصوبة والبركة وبدء مرحلة جديدة معززة بثقة بالنفس والإرادة للمساعدة في بناء وطن للجميع بكل الطوائف والإنتماءات. في بعض الحالات يكون السجان أصغر من السجين. إختطاف الإمام بتلك الطريقة البوليسية المتقنة، زاد الإمام الصدر شموخاً وبلوغاً من قامة القادة العمالقة، ومن الجهة الأخرى، تقزّم مختطفوه حتى باتوا لا قامة ولا قيامة لهم.
لم يكن رجلا عادياً، بل كان حلماً سُرق من بيننا قبل ثلاثون سنة. هذا هو قدر الكبار من القادة عبر الزمان، عندما يخرجون إلى الأمم حاملين قضايا أمتهم وشؤون دولتهم.
رغم مرور ثلاثين عاماً على تغييب الإمام، سوف يبقى السيد موسى الصدر رمزاً من رموز الحقبة الجميلة في تاريخ الوطن الصغير الجميل لبنان. منه تعلمنا حب الوطن والدين والإخلاص وشربنا من مدرسته شرف الكلمة وشجاعة الرأي وقوة الحجة وكرامة المسؤولية. أما من سعى ودعا وخطط لإختطافه وتغييبه حسداً وغيرة منه ومن تجربته الرائدة في خدمة وطنه وطائفته. فإنهم يزدادون إنعزالاً وهزالاً في عيون شعوبهم وأوطانهم وإنحداراً إلى عتمة التخلف والتعصب.
إذا رأيت الكلب في أيام دولته فأعدد لرجليك أطواقاً من الزردِ
وإعلم أن عليك العار تلبسه من عضة الكلب لا من عضة الأسدِ
Leave a Reply