يوم الثلاثاء الماضي، واصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهديداته للدول التي تتلقى مساعدات مالية من الولايات المتحدة، والتي -على حد تعبيره- لا تقوم بالأعمال المطلوبة منها، حيث كتب «نجم تويتر» في إحدى تغريداته، قائلاً «إننا لا ندفع مليارات الدولارات مقابل لاشي لباكستان فقط، بل هنالك العديد من الدول الأخرى، وعلى سبيل المثال، إننا ندفع للفلسطنيين مئات ملايين الدولارات سنوياً دون أن نحظى بأي تقدير أو احترام». أضاف «إنهم (الفلسطينيون) لا يريدون حتى التفاوض حول معاهدة سلام طال انتظارها مع إسرائيل.. لقد نحينا القدس -وهي أصعب جزء من المحادثات- عن طاولة المفاوضات، ولهذا على إسرائيل أن تدفع أكثر، ولكن مع ذلك لم يعد الفلسطينيون مستعدين للحديث عن السلام، فلماذا علينا أن لهم هذه الأموال الطائلة في المستقبل؟».
ولكن ما الذي يعنيه ترامب بالمساعدات المقدمة للفلسطينيين؟ هل يعني المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لـ«وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) أم يعني المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية؟
إذا كان يعني خفض التمويل للأونروا فمن المحتمل أن يتسبب ذلك بكارثة إنسانية تلحق الضرر البالغ بملايين اللاجئين داخل فلسطين وخارجها، ممن أجبروا على الاعتماد على الوكالة الدولية لتحصيل الخدمات الصحية والتعليمية، إضافة إلى الغذاء والدواء والمأوى. ففي قطاع غزة ارتفع عدد المستفيدين من خدمات الوكالة من 80 ألف شخص في عام 2000 إلى ما يقارب المليون شخص، وذلك بسبب الحصار الذي تفرضه الدولة العبرية على القطاع الذي يعتبر أكبر سجن في العالم.
كما أن خفض المساعدات للأونروا ستكون له آثار بعيدة المدى، وبحسب اعتراف المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، قد يسهم بزعزعة الاستقرار في الأردن ولبنان حيث يعيش عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين.
أما إذا كان ترامب يعني قطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى انهيارها، وهو بذلك يكون قد سلب إسرائيل إحدى أدواتها الرئيسية في الحفاظ على أمنها وتطبيق سياساتها في الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، ومثل هذه النتيجة لا تريد إسرائيل حتى تخيلها!
لقد جاء ترامب إلى البيت الأبيض واعداً بتقديم «صفقة سلام نهائية» في الشرق الأوسط، ولكنه قام في الشهر الماضي بتخريب آخر الفرص الضئيلة المتبقية لاستكمال محادثات السلام برعاية أميركية، حين أصدر قراراً بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة للدولة العبرية. ومع تأجيل نائب الرئيس بنس مراراً وتكراراً زيارته للمنطقة، فيبدو أن جهود ترامب في عقد صفقة سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد وصلت إلى حائط مسدود.
وعلى الرغم من ترهيب ترامب وتهديداته، فقد أخفق في إرغام الغالبية العظمى من الدول على التصويت لصالح قرار بلاده في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما فشل في تخويف الفلسطينيين والنجاح بابتزازهم عبر المساعدات المقدمة للسطلة الفلسطينية التي واجهت الابتزاز والوعيد الأميركي بالقول «القدس ليست للبيع».
خلال العقد الأخير، بلغت المساعدات الأميركية لرام الله حوالي 400 مليون دولار سنوياً، غير أن تلك الأموال كانت تعود بالنفع على إسرائيل بالدرجة الأولى، خاصة وأن معظمها كان يصرف لتعزيز الأوضاع الراهنة للاحتلال، ولهذا فقد حرص اللوبي الإسرائيلي «آيباك» دائماً على الضغط على الكونغرس الأميركي لتمويل السلطة الفلسطينية، وفي آب (أغسطس) الماضي، دعمت اللجنة الأميركية الإسرائيلية مشروع قانون يهدد بقطع المساعدات الأميركية عن رام الله، فقط بعد تضمين القرار استثناءات تضمن استمرار تدفق الأموال من أجل «التعاون الأمني» بين السلطة وإسرائيل.
إذا انهارت السلطة الفلسطينية فإن ما يسمى بالمجتمع الدولي لن يكون قادراً على التظاهر بأن هنالك دولة فلسطينية وسوف يضطر إلى التعامل مع حقيقة أن إسرائيل تحكم مباشرة ملايين الفلسطينيين وتجردهم من حقوقهم الإنسانية، فقط لأنهم ليسوا يهوداً، وهذا سيفاقم من مشاكل الأوضاع الأمنية داخل الكيان المحتل.
وإضافة لتمويل السلطة الفلسطينية، فإن الولايات المتحدة هي أكبر ممول للأونروا التي تلبي الاحتياجات الأساسية لملايين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا والأردن ولبنان. ولسنوات عديدة قام المتطرفون المناهضون لفلسطين، خاصة في الولايات المتحدة، بشن حملات تشهير ضد الأونروا بدعوى أنها تحرض على معاداة إسرائيل وأن مدارسها تحتوي على الأسلحة، كما ادعى الكثير من مؤيدي الكيان الصهيوني أن وجود الوكالة «يديم» وجود اللاجئين، وهؤلاء يعتقدون أنه إذا تم حل الأونروا فإن حق الفلسطينيين بالعودة سوف يتبخر، إذ ستجبر الأزمة الدول المستضيفة لهم على توطينهم. وينطبق هذا الحال على المقولة التي تطالب بإغلاق المستشفيات المليئة بالمرضى من أجل القضاء على الأمراض. وهذا يعني -في جملة ما يعنيه- أن أعداء الأونروا لا يبحثون عن حلول للمشاكل، وإنما يبحثون عن وسائل لتغييب الفلسطينيين وتذويبهم في المجتمعات الأخرى!
في كلا الحالتين، سواء عنى الرئيس الأميركي وقف المساعدات، للسلطة الفلسطينية أو لوكالة الأونروا.. فإن العواقب ستكون وخيمة على الشرق الأوسط!
Leave a Reply