وليد مرمر
جاء ماكرون.. رحل ماكرون.. عاد ماكرون.. غادر ماكرون.. وسيعود ماكرون..
لا يخفى على المتبصر في الشأن الدولي أن زيارات «ابن بطوطة الماكروني»، رئيس إحدى أبرز الدول الداعمة للمجموعات الإرهابية في سوريا منذ سنوات، ليست بالبراءة التي قد تنطلي على الكثيرين. أولم تكن فرنسا من الداعمين الأوفياء للحريرية السياسية التي أوصلت لبنان إلى الحالة المزرية التي هو عليها الآن؟ أولم يقاطع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الرئيس إميل لحود ويرفض مقابلته ولو شكلياً، تبعاً للياقات الدبلوماسية، حينما حضر إلى بيروت للتعزية برفيق الحريري؟ بل ألم تضغط فرنسا على رومانيا التي استضافت القمة الفرنكوفونية عام 2006 لكي تخالف كل الأعراف وتدعو فؤاد السنيورة سارق المليارات الـ11، لتمثيل لبنان بدلا من الرئيس لحود؟ وإن شئت الحديث عن سياسات فرنسا الإجرامية في أفريقيا فحدث ولا حرج! فعلى سبيل المثال –لا الحصر– تسبب الاحتلال الفرنسي للجزائر باستشهاد مليون ونصف مليون شهيد. ثم عادت فرنسا في تسعينيات القرن الماضي لتدعم الميليشيات المحلية والجيش الجزائري للانقلاب على حزب الإنقاذ الأخواني الفائز بالأكثرية في انتخابات نيابية نزيهة! ثم ساهمت فرنسا بشكل فعال ومباشر في تدمير ليبيا ونهبها، بل ويعتقد أن المخابرات الفرنسية هي التي سلمت معمر القذافي إلى ثوار مجهولي الهوية لإعدامه من غير محاكمة عادلة، لأن تقديمه إلى المحاكمة كان سيفضح خفايا الكثير من الملفات التي كانت فرنسا متورطة فيها.
فرنسا الحنونة أيضاً، ساهمت بوصول عبدالفتاح السيسي إلى الحكم والإطاحة بالراحل محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً. إذ لم تحرك باريس ساكناً لمحاكمة أي من المسؤولين عن فض اعتصامات «النهضة» و«رابعة»، بدموية قلّ نظيرها، وقد وصفتها منظمة «هيومن رايتس واتش» بأنها من أخطر الجرائم ضد الإنسانية بل وأخطر الجرائم الجماعية غير المشروعة في تاريخ مصر الحديث! في اليمن كذلك، لم توقف فرنسا من دعم التحالف الخليجي في عدوانه السافر على اليمن بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة التي تسببت بقتل آلاف الأبرياء فضلاً عن تدمير اليمن وتجويع شعبه البطل
هذا ناهيك عن التدخل في دول الساحل الأفريقي الغربي (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا…) لتعزيز النفوذ الفرنسي عبر نهب ثروات تلك البلدان والسيطرة على أسواقها، بعدما استعمرت فرنسا شعوب تلك الدول لعقود واستغلت مواردهم، حتى البشرية منها من خلال تجارة الرق، أو لاستعمالهم كمرتزقة في ساحات الحروب.
يقولون إن للبنان منزلة مميزة لدى الأم الحنون، خصوصاً بشقه المسيحي؟
لكن فرنسا تخلت عن مسيحيي العراق وسوريا تاركة إياهم لقمة سائغة تحت رحمة الدواعش والمتطرفين، ولولا تدخل «الروافض» و«المجوس» لقضي على ما تبقى من قرى التنوع المسيحي في البلدين بعد أن تخلى عنهم الغرب، مكتفياً بفتح أبواب السفارات لرحيلهم عن أرض الأجداد.
يخطئ من يظن أن فرنسا أو الدول الغربية تكترث قيد أنملة بالدين. بل جل ما يهتمون له هو المصالح والنفوذ.
فاهتمام فرنسا بمسيحيي لبنان مرده إلى النفوذ الذي وفره المسيحيون لها في التركيبة السياسية اللبنانية، والتي هي بيت الداء، فقط ليتسنى تمرير مشاريع باريس عبر حلفاء وهميين تنتفي الحاجة إليهم بانتفاء المصلحة. إذ أن اهتمام فرنسا بلبنان ينبع من موقعه الاستراتيجي في شرق المتوسط سيما مع احتدام النزاع في المنطقة بين الأوروبيين والأتراك على وقع تشابك مشاريع نقل الغاز والنفط إلى القارة العجوز.
ولكن على فرض أن فرنسا تريد للبنان الاستقرار والازدهار فقط لا غير، فلماذا لا تحاول تقديم قروض أو هبات عبر الاتحاد الأوروبي بدل استغلال الضائقة الاقتصادية لمحاولة تمرير ورقة إصلاحية تتضمن شروط صندوق النقد الدولي العصية على التنفيذ من قبل الحكومة والشعب سيان!
لقد عقدت حكومة حسان دياب 20 جلسة مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل تقريب وجهات النظر ولكن من غير طائل. وكما هو معلوم، فإن الصندوق تسيطر عليه أميركا سيطرة شبه كاملة، وهو أبعد ما يكون عن صندوق صدقات لإنقاذ الدول، بل يعتقد الكثيرون أن قروض صندوق النقد ليست إلا مقدمة لاستعباد الدول وإلحاقها بسياسات العولمة.
لقد فرض «رستم ماكرون» اسم مصطفى أديب لرئاسة الحكومة، وهو صاحب الجنسية الفرنسية، والمتزوج من سيدة فرنسية والدها مقرب من الإيليزيه.
قد يجادل البعض أن هذه التسمية لم تأت بمباركة واشنطن أو الرياض لرغبتهما بتسمية نواف سلام رئيساً للحكومة. ويدعم هذا الرأي ما صرح به سعد الحريري من أن تسمية أديب لاقت بعض الاستياء الإقليمي والدولي، وهو يعني بذلك، البلدين الآنفين!
نعم ربما أن تعثر «الحل الأميركي» وعدم قدرة واشنطن على فرض رؤيتها على الواقع اللبناني، دفعها لانتداب فرنسا للقيام بهذه المهمة لما لفرنسا من رصيد في بلاد الأرز، إلى جانب قدرة فرنسا على التحاور مع «حزب الله» بشقه السياسي «غير الإرهابي» وفقاً لقاموس مصطلحات السياسة الفرنسية.
هذا الهامش من المرونة السياسية، الذي لا تتمتع به أميركا، ضروري ومطلوب لما لـ«حزب الله» من نفوذ سياسي في لبنان لا يمكن شطبه من المعادلة، سيما بسبب تمثيله البرلماني الوازن وتحالفاته العابرة للطوائف والأديان. لذلك فإن أي خرق دبلوماسي في الوضع اللبناني لن يكتب له النجاح إلا بمباركة «حزب الله».
إذن، البراغماتية الأميركية هي التي دفعت واشنطن إلى الاستعانة بـ«صديق» لـ«تسوية» الوضع اللبناني، بينما ينشغل الأميركيون في ترتيب طابور دول «الاعتدال العربي» المهرولة إلى أحضان إسرائيل.
لقد كان ماكرون بدوره براغماتياً إلى أبعد الحدود بمقاربته للوضع اللبناني، وذلك عبر انفتاحه على معظم التيارات السياسية، وعبر تمرير رسائل واضحة «للثوريين» بأن لا تغيير ممكناً من خارج مؤسسات الدولة. وهو قد صرح أنه عائد في شهر كانون الأول (ديسمبر) لمتابعة الملف اللبناني، وتحديداً لمقاربة سلاح «حزب الله» وإيجاد حلّ له، وهنا بيت القصيد!
فإلى أي حد سيستطيع «حزب الله» الوقوف في وجه الهجمات الشرسة المتواصلة محلياً ودولياً، عبر اتهامه بأنه السبب لكل مشاكل البلد، وأنه لا بد له من أن يتخلى عن سلاحه حتى يستقيم الحال في لبنان؟
لقد بدا واضحاً في التحركات الأخيرة «للثوار» بأن كلمة السر قد أعطيت لتحويل مسار «الثورة» من مطلبي إلى سياسي بحت همه الوحيد هو سلاح الحزب.
فهل تستطيع فرنسا، بما لها من ثقل لبناني وبسياساتها الناعمة، التسلل إلى المطبخ السياسي الداخلي لتمرير المشاريع الدولية التي تتمحور حول نزع السلاح وترسيم الحدود البحرية وفقاً للمصلحة الإسرائيلية؟
قد يبدو ماكرون للوهلة الأولى، بأنه «المخلّص» الذي أرسلته السماء لإنقاذ وطن الأرز من محنه، ولكن الدول لا تتعاطى إلا من خلال مصالحها التي قد تلتقي أو لا تلتقي مع مصالح الدول الأخرى، وهنا مربط الفرس.
لذلك سيكون تحصين الحكومة العتيدة عبر توزير شخصيات وطنية ليس لها ولاءات خارجية، أمراً في غاية الأهمية لكيلا تذعن للضغوطات الدولية وتتخلى عن حقوق لبنان ولو جزئياً. فتسير الحكومة بالورقة الفرنسية ما لم تهدد السيادة اللبنانية وترفض بشكل قاطع، تدويل مسألة سلاح المقاومة التي لا شك أن سيد الإيليزيه سيضعها على الطاولة عاجلاً أم آجلاً.
لقد استطاع ماكرون عبر حنكته واطلاعه الدقيق على الملف اللبناني بتشعباته، وعبر تقليد الأوسمة «الفيروزية» وعبر العناقات «الرومية»، استطاع أن يكسب ثقة الكثير من اللبنانيين وأن ينفذ إلى وجدانهم. ولكن ستكشف الأيام المقبلة عن صدق أو زيف هذا الاهتمام الفرنسي المتعاظم بلبنان، وهذه الرغبة الطارئة بمساعدته للتغلب على أزماته.
إن غداً لناظره لقريب. ورحم الله الشاعر المتنبي القائل: إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنن أن الليث يبتسم.
Leave a Reply