صفقات تجارية واستثمارية مقابل الحماية الأميركية .. و«صفقة العصر» لتصفية القضية الفلسطينية
واشنطن – محمد دلبح
زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للولايات المتحدة التي وصلها يوم 9 مارس/آذار الجاري واستهلها بلقاء مع الرئيس دونالد ترامب في اليوم التالي، ليست زيارة عادية. هي تأسيسية بما للكلمة من معنى. تمتد 3 أسابيع تنتهي يوم 7 إبريل/نيسان المقبل، سيمكث خلالها بن سلمان، متجوّلاً بين سبع مدن أميركية ، عارِضاً خدماته بوصفه «الزبون الكبير»، على حدّ تعبير ترامب الذي اضاف مصطلحاً جديداً إلى التوصيفات الرائجة لثروات آل سعود، حيث خاطب ضيفه في البيت الأبيض في معرض تعليقه على قيمة صفقة تسليحية بين البلدين (525 مليون دولار)، بالقول: «هذا لا شيء بالنسبة إليك… يجب أن تزيد ذلك (المبلغ)». ضحك الأمير الشاب، مرسِلاً تعابير تجلّي موافقته على طلب «صديقه». لن يبخل «الرجل الثري»، وفق ما يصف نفسه، على واشنطن بما لديه. استثمارات بمئات مليارات الدولارات يحملها في جعبته لشركات السلاح والتكنولوجيا والترفيه وغيرها. كل ذلك في مقابل نيل الوكالة الأميركية، السياسية والأمنية، والظفر بإعادة إيران إلى طور الحصار والعقوبات. نتيجة ليس ابن سلمان مستعداً لدفع ثمنها أموالاً فقط، بل، وهو «الإيجابي بطبعه»، على جاهزية لتأدية دور أكبر في «خنق» الفلسطينيين… تمهيداً لإرساء «صفقة القرن»!
إصلاحي أم رجل حرب؟
قدم ابن سلمان نفسه عشية زيارته على أنه إصلاحي محلي، لكنه في حقيقة الأمر جاء يحمل قائمة التسوق لرجل حرب يتضمن اقتناء مفاعلات نووية ذات قدرة الاستخدام المزدوج. قبيل زيارته لأميركا اشترى كميات هائلة من الأسلحة في بريطانيا، فيما تظهر بيانات وكالة وزارة الدفاع لمبيعات الأسلحة أن الولايات المتحدة حصلت في الأشهر التسعة الماضية وحدها على 54 مليار دولار من المبيعات العسكرية الأجنبية إلى السعودية.
على جدول ابن سلمان أيضاً زيارات يلتقي فيها كبار الماليين في بوسطن ونيويورك، قبل أن ينتقل في ختام الجولة إلى السواحل الغربية للولايات المتحدة، حيث يزور لوس أنجليس وسان فرانسيسكو ليلتقي بكبار المسؤولين عن شركات التكنولوجيا، بينها «غوغل» و«آبل»، و«مايكروسوفت»، كما يعرج على شركة «لوكهيد مارتن» للصناعات العسكرية. وعلى جدول ابن سلمان أيضاً مدينة سياتل حيث يلتقي بمسؤولي شركة «آمازون»، قبل أن يختتم جولته مع شركات الصناعات النفطية في هيوستن (تكساس).
جدول ولي العهد السعودي، الذي يبدو بعضه تكراراً لجولات سابقة، يفصح عن إصرار على المضي قدماً في طموحاته التي أطلق على أساسها «رؤية 2030». ولا شك في أن التغلغل في قطاعات الولايات المتحدة كافة، وإغراق كبرى الشركات الأميركية في الاقتصاد السعودي، أمران يعزّزان من فرص نجاح الرهان السعودي على تمتين الشراكة مع الأميركيين، وضمان عدم تركها عرضة لمواقف قد تتبدل مع الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض. ومع أن ابن سلمان سيجول على الشركات المالية في بوسطن، إلا أن الحديث عن طرح «أرامكو» في بورصة نيويورك تراجع في الآونة الأخيرة، وسط معلومات عن تأجيل المشروع لأسباب غامضة حتى الآن.
طموحات وطلبات
لكن الصفقة الجديدة، الأشد تعقيداً، والتي حلّت محل الحديث عن طرح «أرامكو» للاكتتاب العام، هي الطموحات النووية لصاحب رؤية «2030»، عبر الدفع قدماً بانخراط الأميركيين في مشروع سعودي لبناء 16 مفاعلاً نووياً بقيمة تقارب 80 مليار دولار، على مدى الأعوام العشرين المقبلة، وتحت وطأة منافسة روسية وصينية وفرنسية. مشروع تحول دونه عثرات أمنية وسياسية، أبرزها إصرار السعوديين على عدم توقيع أيّ اتفاق يمنعهم من تخصيب اليورانيوم مستقبلاً، الأمر الذي لا يحظى اليوم بترحيب دوائر القرار الأميركي.
في لقاء البيت الأبيض، قال ترامب لضيفه «نحن نفهم بعضنا بعضاً». ولم يكن ترامب إلا دقيقاً في قوله. فهو يعلم جيداً ما يريده منه «الملك غير المنصب»: جعل السعودية صاحبة الاكتتاب الأكبر في سوق الوكالات الأميركية الأمنية والسياسية، بما يؤهلها، وفقاً لاعتقاد ابن سلمان، لتزعّم المنطقة، وكبح جماح إيران ومحاصرة دورها الإقليمي تحت لافتة «إصلاح» الاتفاق النووي مع طهران، ومنحه ضوءاً أخضر للمضي في تكتيكاته المتصلة بأزمتَي اليمن وقطر إلى ما يشاء.
كذلك، يدرك الأمير، الذي أضحت العلاقات في عهده مع الولايات المتحدة «أفضل من أي وقت مضى» على حد تعبير ترامب، ماهية المطلوب منه أميركياً: استثمارات بمليارات الدولارات تشمل قطاعات الأمن والدفاع والتنكولوجيا والتجارة والترفيه… وتأدية دور مساعِد في تمرير «صفقة القرن» التي تعني عملياً تصفية القضية الفلسطينية وتكريس الاحتلال الإسرائيلي واقعاً لا مناص منه.
على ضوء المؤشرات الأولية التي صدرت عن لقاء ترامب–ابن سلمان، يبدو أن الصفقة ستسير وفق ما يشتهيه الطرفان.
حاملاً رسوماً توضيحية تظهر عمليات الشراء السعودية للمعدات العسكرية الأميركية، أكد ترامب، المحاصَر داخلياً بكم هائل من الانتقادات والاتهامات، أن «العلاقة لن تشهد على الأرجح سوى مزيد من التحسن». وعلى الفور أوضح مقصده بقوله إن «هناك استثمارات هائلة في بلادنا، وهذا يعني فرص عمل لعمالنا». إذن، هنا الشقّ الأوّل من الصفقة، والذي يبدو أن ابن سلمان سيمضي فيه من دون نقاش، وفق ما أنبأ به «أول الغيث» الذي تمثّل يوم الاثنين الماضي في ضخّ 400 مليون دولار في شركة «أنديفور» لصناعة السينما في «هوليود».
إعلان ستتبعه حتماً إعلانات أخرى بناءً على «خطة لاستثمار 400 مليار دولار بين البلدين»، طبقاً لما تحدث به ولي العهد الذي شدد على «(أننا) حريصون على تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، ودعائم صداقتنا القوية».
عزل إيران
في المقابل، أسمع ترامب، الذي لا يفتأ يهدّد بالانسحاب من الاتفاق النووي، ابن سلمان ما يطرب لسماعه: «إيران لا تتعامل مع العالم بشكل مناسب. الصفقة ستظهر خلال شهر وسنرى ما سيحدث»، في إشارة إلى الموعد المقرر لتجديد إعفاء إيران من العقوبات من عدمه (12 أيار/مايو المقبل). تراهن السعودية، التي وصف وزير خارجيتها، عادل الجبير، عشية الزيارة، الاتفاق بـ«المعيب»، على إمكانية أن يسهم تهديدها بـ«القنبلة الذرية»، وإغراؤها المجتمع الدولي بالاستثمار في برنامجها النووي، في تقويض «الخطة المشتركة الشاملة»، بالاستفادة من «مغالاة» الرئيس الأميركي في معاداة إيران، التي وصف حكامها ليل الإثنين–الثلاثاء الماضي، بأنهم «يخدمون أنفسهم بدلاً من خدمة الشعب»، وحرسها الثوري بأنه «جيش معادٍ يقوم بأعمال وحشية ويسرق الشعب الإيراني لتمويل الإرهاب في الخارج».
لكن دون المطامح السعودية عقبات عدة، لن تحول، على الأرجح، دون بلورة استراتيجية مشتركة لمواجهة طهران، تشمل، بحسب وسائل إعلام أميركية، ضغوطاً دبلوماسية وسياسية واقتصادية مضاعَفة على «الجمهورية الإسلامية».
هذا التعاون في «التصدي للمشروع الإيراني» يتجلى، على الساحة اليمنية، تواطؤاً على إبقاء نزيف اليمنيين، ريثما تحين الفرصة المناسبة لوقف الحرب.
فرصة لن تحين، في نظر السعودية قبل «إنهاء التمرد، وعودة الحكومة، وإكمال الخطوات التي أفسدها الانقلابيون»، وفي ما عدا ذلك فلتستمرّ الأزمة الإنسانية أعواماً!
هذه الرؤية لا يبدو، إلى الآن –على الرغم من تصاعد الانتقادات داخل الكونغرس وفي وسائل الإعلام وفي أوساط المنظمات الحقوقية للمشاركة الأميركية في عمليات «التحالف»– أن إدارة ترامب مستعدة للعمل بجدّ على تبديلها. وعليه فمن المستبعد أن يكون الرئيس الأميركي، ومعه صقور إدارته، قد باشروا ضغوطاً حقيقية على ابن سلمان لوضع حدٍّ للجريمة المتواصلة في اليمن. فقد تزامن لقاء البيت الأبيض (صدفة) مع رفض مجلس الشيوخ مشروع قرار يدعو الولايات المتحدة إلى وقف مشاركتها في الحرب السعودية على اليمن التي خلفت أكبر ماساة إنسانية في العالم. لكن يبدو أن شيكات بن سلمان المفتوحة لرشوة الدول والأفراد ساهمت في قتل مشروع القرار الذي حصل على موافقة 44 سناتوراً فيما عارضه 55، حيث توفر الحرب مليارات الدولارات من عوائد الخدمات اللوجستية والتسليحية.
برود في معالجة أزمة قطر
التوقع نفسه ينسحب على الأزمة القطرية، التي جدد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يوم الثلاثاء الماضي، وصفه إياها بـ«الصغيرة»، جازماً «(أننا) لسنا مستعجلين»، وأن حل هذه الأزمة «سيأخذ الوقت اللازم». إذ، وعلى الرغم من تأكيد مسؤولين كبار في إدارة ترامب أن الرئيس الأميركي لا يزال يريد الترتيب لعقد قمة أميركية–خليجية في منتجع كامب ديفيد الربيع المقبل، وأنه يتطلع فعلاً إلى تسوية النزاع بين قطر وجيرانها، إلا أن ترامب لا يبدو مستعداً للتفريط بما يسميها «صداقته العظيمة» مع ولي العهد السعودي من أجل إنهاء الخلاف الخليجي.
من هنا، قد لا يكون الحديث في هذا الملف تجاوز حدود الطلب إلى الرياض، بـ«المونة»، إبداء مرونة أكبر تتيح ترطيب الأجواء ولو نظرياً. وإذا كان ذلك هو حال الأداء الأميركي في ما يتعلق بأزمتَي اليمن وقطر، فمن الطبيعي أن يكون أكثر سوءاً في ما يرتبط بملف حقوق الإنسان في السعودية، التي سبق لترامب أن قال إنه لا يريد «فرض القيم الأميركية» عليها وعلى غيرها من الدول التي تدعم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، في مجاراة لوجهة نظر ولي عهد المملكة الذي يتذرع، لدى سؤاله عن الأوضاع الحقوقية، بأن «قيمنا مختلفة عن قيمكم»، ولكنه كان واضحاً في قوله لولي العهد السعودي بأن تمويل الإرهاب لم يعد مقبولاً من أي دولة في العالم.
صفقة القرن
إلى جانب الاجتماع مع ترامب، تضمن جدول زيارة محمد بن سلمان لقاء كبار مساعديه، من بينهم مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، وزير الدفاع جيم ماتيس، وزير المالية ستيف منوشين، وزير العمل ويلبر روس، رئيس مجلس النواب بول راين، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) مايك بومبيو، الذي عينه ترامب وزيراً للخارجية بدلاً من ريكس تيلرسون.
ولكن بيت القصيد في ما تقدم كله تجلى بمائدة العشاء بين ابن سلمان، و«صديقه الحميم»، مستشار ترامب وصهره، جاريد كوشنير، والمكلف بالإشراف على عملية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي جيسون غرينبلات.
الملف الرئيس على المائدة، «صفقة القرن»، التي لم تغاير إجابات ولي العهد السعودي على أسئلة الصحافيين بشأنها إجاباته على الأسئلة المتصلة بشخصيته وطبائعه: «أنا بطبعي دائماً إيجابي». هكذا قال، محاوِلاً تمويه الدور الذي تؤديه بلاده في المشروع الأميركي الذي يُراد فرضه على الفلسطينيين، بهدف دفعهم إلى الاختيار ما بين «الخطاب البغيض، والجهود الملموسة والعملية لتحسين نوعية حياتهم، وقيادتهم إلى السلام والازدهار»، على حد تعبير غرينبلات في تعليقه على وصف رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، السفير الأميركي لدى تل أبيب، ديفيد فريدمان، بـ«ابن الكلب».
بناءً على ما تقدم، وغيره الكثير من المعطيات، يمكن توقع ما ستحمله الأيام المقبلة في هذا الإطار، من اندفاع سعودي أكبر نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتشديد الخناق على الفلسطينيين بهدف حملهم على القبول بـ«الأمر الواقع».
زبائن ممتازون
أشار الرئيس دونالد ترامب خلال استقباله ولي العهد السعودي إلى أن «السعوديين أصدقاء جيدون وزبائن ممتازون» وأنّ «العلاقات السعودية الأميركية في أحسن حالاتها»، مضيفاً أن «السعودية ستعطي الولايات المتحدة بعض ثرائها»، وعقّب قائلاً: «هذا ما نتمناه».
وشدد ترامب على أنّ واشنطن لن تتسامح أبداً مع تمويل الإرهاب وستقطع علاقاتها بأي دولة تمارس هذا الأمر، كما تطرق إلى الاتفاق النووي الإيراني كاشفاً أنه سيتخذ قراراً حيال الاتفاق عندما ينظر فيه بعد شهر من الآن.
من جهته، صرح ولي العهد السعودي أن الرياض تعمل «على خطة لاستثمار 200 مليار دولار مع واشنطن»، مؤكداً أن بلاده «تحرص على تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، ودعائم صداقة قوية بين البلدين».
وأشاد ترامب بمبيعات السلاح الأميركي للسعودية ووصفها بأنها تدعم الوظائف في بلاده على الرغم من الانتقادات في الداخل الأميركي لدور الرياض في حربها على اليمن.
وناقش ترامب وولي العهد السعودي اتفاقاً جرى التوصل إليه العام الماضي بشأن استثمارات سعودية مع الولايات المتحدة بقيمة 200 مليار دولار بما يشمل مشتريات عتاد عسكري ضخمة من الولايات المتحدة.
وقال ترامب إن المبيعات العسكرية أسهمت في خلق 40 ألف وظيفة للأميركيين.
والمحادثات في البيت الأبيض جزء من أول زيارة للأمير محمد إلى الولايات المتحدة منذ أن أصبح ولياً للعهد في حزيران (يونيو).
وقدّم ترامب أمام الصحفيين رسماً توضيحياً يظهر عمليات الشراء السعودية لمعدات عسكرية أميركية تتراوح بين السفن وأنظمة الدفاع الصاروخي والطائرات والعربات القتالية.
Leave a Reply