الطائف اصبح خارج التداول بعد الصدام الاميركي-السوري
اتفاق الدوحة ينتهي مع الانتخابات.. فهل يبدأ البحث بالجمهورية الثالثة؟
لم يتفق اللبنانيون بعد، على جمهوريتهم والرقم الذي تحمله، هل هي الاولى ام الثانية ام الثالثة ام الرابعة الخ… وهم يختلفون على تاريخ قيام جمهوريتهم، فهل نشأت مع “لبنان الكبير” الذي اعنله الجنرال الفرنسي غورو عندما كانت فرنسا منتدبة على لبنان، ام عند وضع الدستور عام ١٩٢٦ في ظل الاستعمار الفرنسي، او بعد خروجه من لبنان في العام ١٩٤٣ او الجلاء عنه رسمياً في العام ١٩٤٦ اوبعد اعلان اتفاق الطائف عام ١٩٨٩؟
فهناك من يقول ان لبنان هو في ظل الجمهورية الثانية، بعد اجراء تعديلات على دستوره الذي اتفق عليه في الطائف، وبالتالي فان الدعوة تكون صحيحة الى قيام الجمهورية الثالثة، التي يدعو اليها “التيار الوطني الحر” ويرفعها كشعار وبرنامج لحملته الانتخابية، وتوافقه قوى سياسية وحزبية في ذلك، تحت عنوان ان اتفاق الطائف لم يعد اتفاق الضرورة، كما وضع في العام ١٩٨٩، وشكّل منصة للسلم الاهلي، ووقف الحرب الاهلية برعاية عربية واقليمية ودولية ونص على بنود لاصلاح النظام السياسي، طبق جزء منها، وبقي جزء آخر لم يطبق، وهو اساسي وهام جداً، ويتعلق بنقل لبنان من النظام الطائفي الى نظام اقل طائفية، اذ ثمة آلية لالغاء الطائفية، بتشكيل هيئة وطنية من اجل وضع برنامج يصل بلبنان الى قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وقيام مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف، والغاء طائفية الوظيفة، على ان تراعى المناصفة في التوزيع الطائفي.
فاتفاق الطائف كان ركيزة للولوج الى اصلاح النظام السياسي لكن بشكل غير جذري لتغيب الحالات الطائفية فيه في مواقع معينة، وتظهر في اخرى، مما يعني الابقاء على الازمة قائمة، وهو ما كان مدار انتقاد اطراف سياسية وحزبية لا طائفية عند صدوره، لكن التسوية فرضته كصيغة مؤقتة وللخروج نحو تطوير النظام السياسي، والاستفادة من بعض نصوصه وبنوده الاصلاحية، للتأسيس عليها، وصولا الى قيام نظام سياسي مدني.
لكن مشكلة اتفاق الطائف، انه لم يطبق في بنوده الرئيسية، وابرزها مسألة بنيوية تتعلق بأسس النظام السياسي، وهي المسألة الطائفية، التي وردت في المادة ٩٥ من الدستور عند تكريسه في العام ١٩٤٣، بان الحالة الطائفية هي حالة مؤقتة، ولا بد من العمل لانهائها باسرع وقت ممكن، لكن المؤقت تحول الى عرف، وفي الممارسة اصبح اقوى من نصوص الدستور التي لم تأتِ على ذكر طائفية الرئاسات، ولا توزيع المناصب طائفياً او مذهبياً، لكن الميثاق الوطني الذي وقع في العام ١٩٤٣ بين ممثلي الطائفتين المارونية بشارة الخوري والسنية رياض الصلح، وزع المراكز والوظائف، فاعطى المسيحيين نسبة ٦ والمسلمين ٥ من عدد الوظائف، الى ان جاء اتفاق الطائف، ووضع المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
وصيغة ١٩٤٣ بين الخوري والصلح، لم تعط الاستقرار للبنان، ولم تطور نظامه السياسي، بل كانت مصدر ازمات له، مع كل تحول او تطور عربي واقليمي ودولي، وتحولت ساحته الى ملتقى للصراعات الخارجية، في حين كان يقدم نفسه على انه مختبر لتفاعل الديانات، وموطناً لانصهار الطوائف، لكن الممارسة لم تدل على ذلك، اذ بقي المسلم يشعر انه مغبونا ولا يشارك رئيس الحكومة السني في القرار مع رئيس الجمهورية، وكان الشيعي يقدم نفسه محروماً من دولة لا تهتم بانماء المناطق البعيدة عن المركز في العاصمة، التي نشأت حولها احزمة فقر من المواطنين الذين نزحوا اليها من الجنوب والبقاع والشمال وبعض الجبل.
طرحت المشاركة في الحكم، بسبب الامتيازات التي كان النظام السياسي يقدمها “للمارونية السياسية” وانطلقت الافكار الاصلاحية، بتقييد صلاحيات رئيس الجمهورية وضبط ادائه لجهة الزامه باستشارات نيابية لتسمية رئيس الحكومة، لا ان يكون خاضعاً له، ويصبح “باش كاتب” لديه، وان يتحول مجلس الوزراء الى مؤسسة، وقد حصل هذا الامر، لكن في الممارسة تبين ان صلاحية الوزير في عدم التوقيع على المراسيم، اقوى من رئيس الجمهورية الذي قيده الدستور بمهلة زمنية، وهو لم يفعل ذلك مع الوزير، وهذه الثغرة اقر الجميع بضرورة اصلاحها وادخال تعديل عليها، وكذلك الامر بالنسبة لحل مجلس النواب، وهو ما رفع الصوت باتجاه اعادة بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية التي انتزعت منه، في حين يؤكد البعض انها ما زالت قائمة، لكن جرى ضبطها وقوننتها، لكن هذا الموضوع طرح في عهد اول رئيس للجمهورية بعد الطائف، اذ شعر الرئيس الراحل الياس الهراوي ان رئيس الحكومة اصبح يشاركه، ودخل على الخط رئيس مجلس النواب وبات لبنان امام “ترويكا” حكم، وما يشبه المثالثة التي بمعنى من المعاني ادخلت الشيعة طرفاً في القرار، وهي صيغة لم يتطرق اليها اتفاق الطائف، وقد فرضتها ظروف المحاصصات الطائفية، ووجود كل طائفة في السلطة، وقد تم انتقاد قيام حكم “الترويكا”، التي اشتهرت في ايام عهد الهراوي، وحاول الرئيس اميل لحود الخروج منها، فاصطدم باصحابها، كما ظهر في تأليف الحكومة بعد انتخابات العام ٢٠٠٥، طلب قوى ٨ اذار بالثلث الضامن، وحصلت عليه لكن وزارء الرئيس لحود انقلبوا عليه، وتحولوا الى قوى ١٤ اذار وباتت حكومة السنيورة تستأثر بالسلطة مع فريق الموالاة، مما دفع بالمعارضة التي انضم اليها “التيار الوطني الحر” الذي اقصي من الحكومة، وهو يمثل شريحة مسيحية كبرى، الى تنفيذ اعتصام واضرابات وتظاهرات من اجل قبول الطرف الاخر بالمشاركة، وفق ما نص عليه الدستور الذي ينص ان لا شرعية لاية سلطة اذا لم تتمثل فيها الطوائف، وتبين ان ثمة خللاً في تطبيق الدستور واعتبرت الحكومة غير شرعية، بعد ان استأثر فريق “١٤ آذار” بالسلطة، وقرر اخراج المعارضة منها، بناء لطلب اميركي ان لا يتمثل “حزب الله” في الحكومة، وابعاد حليفه في ورقة التفاهم “التيار الوطني الحر” وامتدت المواجهة السياسية والاعلامية والشعبية السلمية احيانا والعسكرية احيانا اخرى، الى حوالي العام ونصف العام، الى ان كان يوم ٥ ايار، الذي اتخذت فيه الحكومة قراراً بتفكيك شبكة اتصالات المقاومة، ولم تعد عنه، فكان الرد عليها في ٧ ايار باقفال الطرقات والمطار، فحاولت الحكومة التصدي للمعارضة عبر مسلحيها في بعض احياء بيروت، فواجهتهم المعارضة، وتمكنت من ان تسيطر على مكاتبهم ومراكزهم وتجردهم من اسلحتهم، وتسلمها الى الجيش اللبناني، فتغيرت المعادلة السياسية، وفرضت المعارضة شروطها بانتخاب رئيس جمهورية توافقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضمن فيها الثلث، واقرار قانون انتخاب واجراء انتخابات نيابية، والحوار حول الاستراتيجية الدفاعية.
شكل اتفاق الدوحة تسوية جديدة، لكنه لم يكن بديلاً عن “الطائف” الذي تصر المعارضة على تنفيذه، وهي لها مصلحة فيه لوجود اكثر من بند اصلاحي فيه، انما هي ترى ان التطورات السياسية التي حصلت خلال السنوات الاربع الماضية، التي تلت انسحاب القوات السورية، وهزيمة المشروع الاميركي في المنطقة، وتأثير ذلك على “ثورة الارز” التي بدأت تتفكك، وتراجعت شعاراتها، كما ان اطلاق سراح الضباط الاربعة وكل الموقوفين الذين لم يتعدوا العشرة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتاكيد المحكمة الدولية وقبلها التقارير الدولية، عدم وجود ادلة ضدهم، كل هذه العوامل، تشير الى ان ما جرى قبل عشرين عاماً اثناء التوصل الى اتفاق الطائف لم يعد يفيد ولا بد من اتفاق اخر، يأخذ بعين الاعتبار كل ما حصل من تطورات لبنانية وعربية واقليمية ودولية، وان هذا الاتفاق الذي فرضته ظروف معينة، ثم جاء اتفاق الدوحة في ظروف اخرى، ما يؤشر الى ان ضرورة البحث في صيغة جديدة للنظام ليس بالامر المستحيل، وان اتفاق الدوحة وقبله اتفاق الطائف، وقبلهما ميثاق ١٩٤٣، كلها تسويات كانت مؤقتة، وتحاول تجميل النظام، ولا تبحث في استئصال المرض، الذي اشير اليه بانه في النظام الطائفي، وان علة لبنان في الطائفية، لكن لم توضع الاليات والحلول للخروج من هذه الحالة، التي تسببت للبنانيين كل هذه الازمات والحروب الداخلية.
ان مرور عشرين عاماً على الاعلان عن اتفاق الطائف، لا بد من البحث في البنود التي طبقت، والثغرات التي ظهرت واسباب عدم تنفيذ البنود الباقية، وان هذا الاتفاق الذي كان محطة للخروج من الازمات لكنه لم يمنع من ان تتوالد، وكانت تمنع انفجارها، الرعاية السورية للاتفاق وتطبيقه بالتفاهم مع القوى العربية والدولية، وقد كان التفاهم الاميركي-السوري هو مفتاح الاستقرار في لبنان، ووقف الحرب الاهلية فيه، لكن مع الصدام الذي وقع بين واشنطن ودمشق بسبب الغزو الاميركي للعراق، وتدخل ادارة الرئيس جورج بوش في شؤون لبنان، واخراج سوريا منه وهي الطرف الرئيسي في تطبيق اتفاق الطائف، والذي كانت تربط وجودها العسكري والامني وحتى السياسي بتنفيذ بنوده الاصلاحية، وبات هذا الاتفاق خارج التداول واصبحنا امام اتفاق الدوحة الذي اقر قبل عام ونفذت كل بنوده مع اجراء الانتخابات النيابية التي كانت اخر البنود فيه بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبات الانتقال ضرورة الى مرحلة جديدة، قد يكون نحو “الجمهورية الثالثة” التي قد تتضمن بعض ما ورد في اتفاق الطائف لجهة اصلاح النظام السياسي، وان الدعوة الى هذه الجمهورية لا يعني انها دعوة الى المثالثة كما حاول رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري تسويقه، اذ ان من يطالب بهذه الجمهورية لا يتطلع الى الوراء، والانتقال من طائفية سياسية الى مذهبية سياسية او من ثنائية طائفية (سنية-مارونية) الى ثلاثية طائفية (سنية-شيعية-مارونية) وهي لم ترد في برنامج “التيار الوطني الحر” بل المطالبة بالدولة المدنية، وهذا ما ورد ايضاً في ورقة التفاهم التي وقعها مع “حزب الله” الذي اكد امينه العام السيد حسن نصرالله سقوط الاحاديات والثنائيات والمثالثات وان المطلوب هو الشراكة وليس الشركة، وعندما طالبت المعارضة بالثلث الضامن، فلتحقيق هذه الشراكة المعبر عنها بـ”الديمقراطية التوافقية” التي قفزت عن فكرة “الديمقراطية العددية” التي تراجع عنها صاحبها المرحوم محمد مهدي شمس الدين، الذي اوصى بالمشاركة في وصاياه، لان النظام الطائفي يفرض ذلك.
فهل تكون الدعوة “للجمهورية الثالثة” بدء البحث واعادة تقويم لاتفاق الطائف كتجربة بعد عشرين عاماً، والانقلاب الذي حصل عليه، والبنود التي لم تطبق وبذلك يبدأ النقاش حول اية جمهورية يريدها اللبنانيون.
فمع الانتخابات النيابية تنتهي مفاعيل تطبيق بنود اتفاق الدوحة، فهل تبدأ مرحلة البحث عن الجمهورية الثالثة؟
Leave a Reply