محمد العزير
جميل أن تحتفي «صدى الوطن» بذكرى مرور تسعين عاماً على تأسيس مدينة ديربورن بعد ضم بلدتي ديربورن تاون شيب (أي غرب ديربورن) وسبرينغويلز (شرق ديربورن) في كيان سياسي واحد عموده الفقري رائد صناعة السيارات هنري فورد، ومورده الضريبي الأول شركة فورد العملاقة التي تتخذ من المدينة مقرها الرئيسي ولها فيها مصانع كبيرة ومكاتب هندسة وتخطيط وتدريب. احتفاء «صدى الوطن» بهذه المناسبة ينمّ عن درجة من النضج والشعور بالانتماء والاستقرار والتفاعل كما اتضح بجلاء في نتائج الانتخابات البلدية والتشريعية الأخيرة.
احتوت المواد الخطية والمرئية والمقابلات والحوارات التي اختارتها «صدى الوطن» للاحتفال على صفحاتها الورقية والتواصلية وموقعها على الإنترنت على الكثير من التواريخ والمحطات التي كوّنت هذه المدينة التي لا تزال أبرز ضواحي مدينة ديترويت وأكثرها ثراءً. من نافل القول إنه لا يمكن توثيق تاريخ تسعين سنة لمدينة لا تزال تنمو وتتطور في عدد أو برنامج أو حتى ملحق كامل. لم يقصر المساهمون في الاحتفالية في تزويد القارئ والمشاهد بالكثير من الوقائع والحقائق المهمة في تاريخ المدينة ككل، ولم تخل المقاربة من احتفالية تستدعيها المناسبة وتتوجه إلى المدينة ككيان سياسي واحد متعدد الانتماءات.
ثمة جانب لم يعط حقه الكافي في هذه المقاربات، مع أنه يستحق أن يكون في طليعتها؛ وهو الوجود العربي الأميركي الذي يكاد يصل إلى نصف عدد السكان، بينما لم يكن ظاهراً أو ملحوظاً عندما أملت مصالح النخب الاقتصادية والسياسية في ديربورن قبل تسعين عاماً انشاء كيان أكبر واوسع. كان الوجود العربي الأقرب إلى ديربورن في ذلك الحين محصوراً في مدينة آلن بارك المجاورة وفي النواحي والضواحي الشرقية لمدينة ديترويت.
بشيء من التبسيط، يمكن القول إن العرب الأميركيين تسللوا إلى ديربورن مع بدء بناء مصنع «الروج» في جنوبي غرب المدينة عام 1917، وازدياد الحاجة إلى اليد العاملة غير المدربة، فيما كان التجنيد العسكري الإلزامي للشباب الأميركي في أوجه إبان الحرب العالمية الأولى. ليس استخدام تعبير «تسلل» عفوياً أو عرضياً، بل هو الوصف الحقيقي للعملية التي أدت تدريجياً إلى قيام أول تجمع سكاني عربي في منطقة ديكس (جنوب شرقي ديربورن) والتي انطلقت منها العائلات العربية الأميركية في أواخر السبعينات وخلال الثمانينات إلى شرق ديربورن ثم إلى ديربورن هايتس والضواحي الأخرى. سبب «التسلل» هو أن النخب المحلية في ديربورن كانت عنصرية المشاعر تماشياً مع الموجات القومية والتعصبية التي كانت تعصف بأوروبا في حينه وتوازيها في أميركا تشديد أنظمة الفصل العنصري التي كانت تشدد الخناق على الملونين وكأنها تريد محو آثار الحرب الأهلية سلبياً، وإعادة العبيد المحررين إلى وضعية أشبه بظروف العبودية. اشتهرت ديربورن منذ نشأتها بعنصرية بلديتها ومؤسساتها الفاقعة والصريحة ضد السود والملونين واليهود وذوي الأصول الإسبانية، وهي السياسة التي توجها رئيس البلدية الأسبق أورفل هابرد الذي تولى ذلك المنصب من العام 1942 وحتى العام 1978، واستحق عن جدارة، لقب «أكثر رجل لؤماً في أميركا» حيث كان يدافع علناً عن سياسة الفصل العنصري ويخوض حملاته الانتخابية تحت شعار «ابقوا ديربورن نظيفة» وهو ما يعني في حينها «ابقوا ديربورن بيضاء». كان من حظ العرب أنهم لم يكونوا مصنفين عرقياً ولا ملحوظين ديموغرافياً وكانت منطقة ديكس معزولة عن بقية المدينة بمباني «الروج» الضخمة وشبكة الطرق السريعة. كانت منطقة مختبئة خلف تلال الفحم الحجري ومغطاة بدخان المصانع، وعندما اكتشف هابرد أن تلك المنطقة أصبحت مأهولة بغالبية عربية أميركية في الستينات، شمر عن سواعد العنصرية وبدأ في مسار لإزالة المنطقة وتحويلها وفق سلطاته البلدية إلى منطقة صناعية بالكامل، مستهلاً ذلك بالقول في مقابلة صحفية «السوريون (وهو اللقب الذي كان يطلقه على كل العرب) أسوأ من الزنوج».
لم يكن في مقدور أحد، غير القانون وضع حد لمشروع هابرد الذي كان يتباهى بقتل الأفارقة الأميركيين في ديربورن، وربما من حسن طالع الجالية أن محامياً عربياً أميركياً شاباً من أصل لبناني (عابدين جبارة) تأثر بحركة الحقوق المدنية وحركة السلام في الستينات انتبه إلى ما تفعله ادارة هابرد تعسفياً من خلال إجبار أصحاب البيوت العرب على بيع بيوتهم بالإكراه وبأسعار بخسة أو التضييق عليهم لتطفيشهم من المنطقة، فتقدم في العام 1971، بالتكافل مع المحامي مايكل برنهارت ممثلاً مركز الحقوق المدينية والسكن (Center for Urban Law & Housing) بدعوى جماعية باسم كاترين أمين (والدة مايكل ورون أمين) والمتضررين من سياسة التهجير القسري، ضد بلدية ديربورن أمام المحكمة الفدرالية لشرق ميشيغن.
لا يمكن لمقالة أن تشمل كل التفاصيل في القضية، وهي في غاية الأهمية، لكن ملخص الحكم في القضية الصادر عن القاضي رالف فريمان يوفر الكثير من التفاصيل. هذه تفاصيل مهمة جداً في تاريخ وجودنا كعرب أميركيين في ديربورن، ونص القضية موجود في الأرشيف تحت اسم (Amen v. City of Dearborn, 363 F. Supp. 1267 (E.D. Mich. 1973)) لمن يود قراءة النص كاملاً. يشير القاضي في بداية حكمة إلى أن هذه القضية تقع تحت التعديلين الخامس والرابع عشر من الدستور، وأن المناورات القانونية للبلدية أدت إلى تأجيل النظر بها لأكثر من سنتين. وتبين للمحكمة أن البلدية كانت تريد مسح المنطقة الواقعة شمال شارع لابيير (Lapeer) وإزالة جميع البيوت القائمة عليها، وكذلك شارع رولو (Roulo) وشارع فيرني (Ferney) وشارع تراكتور (Tractor) باعتبارها حزام بؤس! كذلك إزالة أحياء آكرون هولي (Akron–Holly)، وأمازون (Amazon)، ومجمع سالاينا (Salina) ومجمع يوجين بوراث (Eugene–Porath)، وكل المنطقة جنوب شارع ديكس.
ويلحظ الحكم أن البلدية استخدمت كل نفوذها في مجالات ترخيص البناء وترخيص السكن لتشجيع الناس على ترك المنطقة من خلال عدم تشجيعهم لفظياً وعملياً على إجراء أية صيانة أو إصلاحات لبيوتهم، أو اختراع أسباب غير منطقية تعطل عليهم فرص الحصول على التراخيص أو التأمين، كما أن البلدية في بعض الحالات طلبت إعادة ترميم كاملة لأي مبنى يريد رخصة بسيطة، وأنها أجبرت أصحاب البيوت على توقيع تعهدات بأن لا يطالبوا بقيمة ما ينفقونه على تحسين بيوتهم بموجب أوامر البلدية إذا أرادت البلدية شراء البيت، وأن البلدية كانت تفعل ذلك بطريقة مضللة حتى لا يتم الربط بين هذه الإجراءات وبينها.
ويلاحظ الحكم أيضاً أن مدينة ديربورن هي الأقل اهتماماً بين كل بلديات المنطقة بالحد من التلوث البيئي أو صيانة الممتلكات التي استحوذت عليها، وأنها كانت تتعمد وضع لافتات على البيوت التي تشتريها بطرق تعسفية بأنها بيوت خالية لتشجيع المجرمين وتجار المخدرات على استخدامها للتأثير على البيوت المجاورة، وأنها كانت تخبر أصحاب البيوت أن مصلحتهم بيع بيوتهم سريعاً لأن الأسعار ستنخفض، أو تلزمهم بإجراء صيانة وتصليحات غير مستحقة قانوناً، وأن كثيرين من السكان التمسوا من المحكمة الناظرة في الدعوى، السماح لهم ببيع بيوتهم خوفاً من عقاب البلدية التي منعت شركات التأمين من عرض بوليصات تأمين للبيوت في المنطقة، وانها كانت لا تشجع على بيع البيوت لعائلات أخرى وإنما للبلدية حصراً، وأنها كانت تعرض على أي صاحب بيت يتقدم بطلب ترميم أو صيانة منزله أن تشتريه بأسعار أقل بكثير من السعر المتداول اعتباراً من العام 1965، وأنها منعت أصحاب البيوت من استشارة أي وسيط عقاري قبل البيع، وأن جميع هذه التصرفات كانت بهدف تخفيض قيمة البيوت في المنطقة، وأن المجلس التربوي كان يتواطأ مع البلدية حيث أمر بنقل طلاب مدرسة سالاينا الذين ينهون المرحلة الابتدائية إلى مدارس خارج المنطقة اعتباراً من الصف السابع. وقضى الحكم بعد عرضه للوقائع بأن البلدية كانت تتسلط على الناس وتأخذ بيوتهم بدون مسوغ قانوني في مخالفة للتعديل الخامس في الدستور الأميركي الذي ينص على عدم حرمان أي شخص من حياته وحريته وممتلكاته، أو استخدام الممتلكات الخاصة للاستخدام العام دون تعويض مناسب. وحدد الحكم بأن تصرفات بلدية ديربورن كانت بمثابة استيلاء على بيوت السكان وسبباً لخفض قيمتها المالية، وأن كل الدفوعات القانونية التي تقدمت بها البلدية غير كافية لتبيان سبب يخدم المصلحة العامة من خلال إجراءاتها.
وفي لغة واضحة وجازمة وصف الحكم تصرفات بلدية ديربورن بأنها حملة للاستيلاء على بيوت السكان من أجل إزالتها دون سبب يخدم المصلحة العامة. وبناء عليه، قررت المحكمة منع هابرد وأعضاء المجلس البلدي ورؤساء أقسام العقار والصيانة والمراقبة في البلدية ومن سيحلون مكانهم في هذه المناصب من محاولة أو استدراج عروض لشراء أي عقار في المنطقة؛ أو أن يستملكوا أي عقار في المنطقة إلا أن كانت لديهم اثباتات بأنها للصالح العام، على أن تحتسب قيمتها بالسعر المتعارف عليه؛ وأن لا يشتروا أي عقار إلا بعد موافقة المحكمة؛ ورفض أي طلب صيانة أو ترميم؛ والطلب من أصحاب البيوت صيانة منازلهم بأنفسهم؛ ووضع لافتات على العقارات المملوكة من البلدية بأنها خالية؛ كما منع الحكم، البلدية من التدخل في صفقات التأمين والتمويل العقاري لأي بيت؛ وألزمها بالإعلان عن نية إزالة أي حي أو استملاك أي عقار بحجة إقامة حدائق أو ملاعب؛ أو تغيير التصنيف العقاري لأية منطقة مشمولة بالدعوى.
وقضى الحكم بالتعويض العادل لأصحاب البيوت الذين أجبروا على بيع منازلهم بالتهويل والإجراءات غير القانونية.
في المحصلة، أدانت المحكمة بلدية ديربورن برئاسة هابرد –الذي لا يزال تمثاله موضع خلاف في المدينة– بـ31 اتهام من أصل 32 موجهة اليها في الدعوى الأصلية.
هذا المقال ليس درساً في التاريخ ولا درساً للتاريخ. إذ لم تُعفَ أية جماعة إثنية أو قومية من التمييز في أميركا منذ بداية الاستعمار البريطاني لشمال العالم الجديد. كان هابرد يعتبر غير البيض غير جديرين بحياة نظيفة، شأنه في ذلك شأن هنري فورد أحد ملهمي أدولف هتلر. لكن أميركا قامت واستمرت على مبدأ سيادة القانون، وسيادة القانون لا تطرق أبواب المحتاجين إليها بل هي متوفرة لمن يطلبها.
في عهد الرئيس الفظ والمتهور والعنصري دونالد ترامب من المفيد أن نستعيد وقائع كهذه، لأن القانون هو السيد، لا ترامب ولا مايك بنس ولا مجلس الشيوخ الجمهوري ولا أي ممن سنرى في السجون قريباً فوق القانون. نحن هنا بحكم القانون عرب أميركيون يحق لنا ما يحق لأي أميركي، ويحق لنا أن نحتفل بتسعينية ديربورن التي أصبحت ذات هوية عربية أميركية واضحة.
Leave a Reply