عصرَ الأحد الماضي، استوقفتني سيّدة في أحد المحلّات التجاريّة، تفوح منها رائحة عطر نفّاذة، وترتدي ثوباً ناعماً منسدلاً على جسمها الممتليء، لم تتحرّج في استرسالِها بالكلام معي دون سابق معرفة بيننا، فبدأ نهر كلامها ينساب دون انقطاع، سألَتني: «هل حضرتكِ التي تكتبين في إحدى الصحفِ المحلّيّة؟» وحين أجبتُها أن «نعم» أردفتْ بإطرائها الذي ضاعفَ من خجلي قائلةً: «أنا أقرأ لكِ وأتابع ما تكتبين، تعجبني شجاعتُكِ في طرح المواضيع المسكوت عنها والتي تخصّ الجالية، ونحن بحاجة لمن يسلّط الأضواءَ عليها، لذلك فأنا أدعوكِ على فنجان قهوة سويّةً في هذا المحل»، ولمّا شعرتُ أنّها بحاجةٍ إلى من يصغي لها، سرعان ما لبّيتُ دعوتَها.
جلسنا نحتسي القهوةَ معاً، وقد أدهشني أنّها تعرف معظم ما يدور هنا في المدينة، ولذلك كنتُ أحترز من كلّ كلمة أقولها، أو حركة أقوم بها أمامها، خوفاً من وكالة أنبائها المتنقّلة أينما حلّتْ كما بدا لي، فالغموض يلفّ حياتها، ليس لها زوج ولا أبناء ولا أقارب، حتّى خُيِّل لي بأنّ لها أكثر من أب ووالدتها أكثر من امرأة، كما أنّها رقيقة المزاج، أليفة وأنيسة، تضجّ بالحيويّة والنشاط.
أفصحتْ لي بأنّ شابّاً أحضرَها من بلدها إلى هنا بعد أن تزوّجها ووعدها بحياةٍ ورديّة، وبناء عائلة سعيدة ذات مستقبل زاهر، أسكنها بعيداً عن المدينة في منطقةٍ لا يوجد فيها أحدٌ من أبناء جلدتها، مكث معها شهراً كاملاً دون انقطاع، حتّى شعرَتْ أنّها امتلَكت الدنيا ولم تأبه لوحدتِها في تلك المنطقة النائية، لأنها تعوّدتْ أنّه سيعود إليها في المساء ويؤنس وحشتَها، لكنّ الزوج سرعان ما أخذ يتغيّب عن البيت وأصبح يأتيها ثلاث مرّات في الأسبوع، تعجّبتْ، وسألته عن السبب فقال لها إنّه حصل على عملٍ إضافي لتحسين وضعه الإقتصادي رغم أنّ مرتّبه مُجزٍ ولم يكن بحاجة إلى ذلك العمل الإضافي.
وبحكم ذكائها وقوّة حدسها وسعة ثقافتها، وتتكلّم بأكثر من لغة، نظرتُ إليها باندهاش وقد اتّسعتْ حدقتا عينيَّ، رحتُ أصغي إليها بكلّ جوارحي بانتظار أن أسمع منها المزيد، ضحكتْ فقالت لي: «إنّكِ مستمعة جيّدة» فتراجعتُ عن اندهاشي لأشعرها بأنّي لم أبغِ التطفّل أو استدراجها للمزيد.
لن أعلِّق على كلّ ما قالته، غير أنّي أحسستُ في داخلي بأنّ هناك شيئاً مجهولاً أبحثُ عنه، ولا أدري إن كان ذلك نافذة تطلّ منها ببقيّة قصّتها، قالتْ:
لم يقنعني كلامه عن العمل الإضافي، فاتّخذتُ قراراً بمراقبته بعد أن تعرّفتُ على إحدى جاراتي، تلك الخبيرة بطرق الإحتيال التي يسلكها الأزواج من خلال خبرتها مع زوجها السابق الذي تطلّقتْ منه بسبب الكذب والخداع، وفي إحدى الليالي بعد أن خرجَ من عندي، قدتُ سيّارتي وجارتي كما لو كنّا متخفّيتَين وتعقّبناه فيما أنا أستعيد ما قاله لي من أنّه ذاهبٌ إلى العمل الليلي الجديد، راقبناه حتّى دخلَ إلى منزل في المدينة، واستقبلتْه سيّدة وابنها عند باب المنزل بالقُبل والعناق، فحدستُ بأنّه لم يكذب، إنّه فعلاً عملٌ ليليّ ولكن من نوع آخر، في اليوم التالي عدتُ إلى ذلك المنزل بعدما تأكّدتُ من خروجه، طرقتُ البابَ فاستقبلتْني نفس السيّدة، وحين سألتُها عمّا إذا كان هو بيت فلان، أجابتني أن نعم! وأكّدتْ بأنّها زوجته وأولئك هم أبناؤه، فعاجلتُها بأنّني أيضاً زوجته، أحضرَني بعد الزواج، من البلاد إلى هنا منذ ثلاثة أشهر، وهذه شهادة زواجي منه، صعِقتْ تلك الزوجة المخدوعة أيضاً، وأجهشتْ بالبكاء، فطلبتْ منّي الدخول، تحدّثنا طويلاً وعرفتُ منها أنّ له علاقات متعدِّدة مع نساء أخرَيات، إتّفقنا على تركه لأنّ المال أعماه، وتصوّرَ أنّ باستطاعته التمتّع بالنساء كما يحلو له، ضارباً عرضَ الحائط، استقامة الأخلاق والتفريط بالسمعة الطيّبة، ومن ثمّ ليستهتر بأحاسيس الآخَرين ومشاعرهم، فتذكّرتُ مثلاً شائعاً كانت تردّده جدّتي رحمها الله على مسامعنا: ما في حشرة تحت الحجر تختفي.
وها أنا اليوم أفتّش عن عملٍ أعتاش منه، كي لا أقع فريسةً للمخادعين من نوع ذلك الرجل.
أتساءل إن كان مثل هذا النموذج الإنحطاطيّ، هل فكّرَ لحظةً بعواقب الخداع؟
Leave a Reply