من المفارقات البالغة الدلالة والإثارة، أنه في الوقت الذي يستعد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعقد لقاء قمة مع زعيم الدولة النووية الأكثر عداء للولايات المتحدة، يقدم على الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، فاتحاً الباب على مصراعيه، نحو مزيد من التوترات والنزاعات.. وربما الحروب طويلة الأمد في منطقة الشرق الأوسط.
صاحب الزر النووي «الأكبر والأقوى» من زر كيم جونغ أون، بحسب إحدى تغريداته، ألغى –بجرة قلم– الجهود الحثيثة لدول الـ5+1 والمفاوضات الماراثونية في 2015، من أجل التوصل إلى تسوية شاملة تضمن الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني وإلغاء جميع العقوبات على طهران.
تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي كانت فورية ومنذرة بالأخطار الجسيمة، إذ سرعان ما بادرت إسرائيل إلى شن عدوان جديد على مواقع عسكرية سورية بزعم وجود إيرانيين فيها، ليكون الرد السوري–الإيراني بفتج جبهة الجولان عبر إطلاق عشرات الصواريخ على مواقع الاحتلال الإسرائيلي في الهضبة المحتلة، لتقف المنطقة والعالم على شفير حرب كبرى لا تبقي ولا تذر.
ارتدعت إسرائيل، وبادرت الولايات المتحدة إلى الإدانة والشجب، معتبرة أن من حق الدولة العبرية الدفاع عن نفسها، في سلوك متكرر لازدواجية المعايير التي باتت «ماركة مسجلة» للسياسة الأميركية، خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
عواصم العالم بأجمعها، بما فيها واشنطن، كانت قد وصفت الاتفاق النووي الإيراني بـ«التاريخي»، لكن الرئيس الأميركي كان مصراً –ومنذ إطلاق حملته الانتخابية الرئاسية– على اعتباره «كارثياً» مكرراً في خطاباته امتعاضه الشديد من إدارة سلفه باراك أوباما لأنها أرسلت طائرات محملة بمليارات الدولارات إلى إيران.
فجأة أصبح العالم كله على ضفة، والرئيس الأميركي على ضفة أخرى، هذا ليس مجرد استنتاج لغوي من العبارة السابقة، بل هو حقيقة سياسية قد تكون لها تكاليفها الباهظة مع مواصلة ترامب سياسة «أميركا أولاً» على الساحة الخارجية، دون أية مراعاة لانعكاساتها على الأمن والاقتصاد العالميين، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تصريح الرئيس القائل بأن «كل بلد يساعد إيران… يمكن أن تفرض عليه الولايات المتحدة أيضاً عقوبات شديدة»، في حين يتمسك الأوروبيون بالاتفاق مع طهران والصفقات الكبرى التي أبرمت في الأشهر الأخيرة!.
الآن يضع ترامب الجميع أمام مهلة ستة أشهر، قبل أن يسري قرار العقوبات الذي وقعه الأسبوع الماضي، فهل تعزل أميركا نفسها، وتشعل فتيل الشرق الأوسط؟
ترامب لا يمانع من أن يسبب قراره بالانسحاب من اتفاق فيينا «استعراضاً مثيراً».. حتى ولو أشعل العالم برمته!
والاشتباك الأخير على الحدود السورية–الإسرائيلية قد يكون «أول الغيث»، أو بالأحرى كان أشبه بـ«ميني حرب» أتت بقواعد اشتباك جديدة عبر بوابة الجولان التي ظلت مغلقة منذ حرب الاستنزاف في السبعينات. ولكن هل تجرؤ إسرائيل على إشعال الحرب ضد سوريا وإيران، وهل يكفيها الضوء الأخضر الأميركي بإلغاء الاتفاق مع طهران، للإمعان في اعتداءاتها.
مسلسل ازدواجية المعايير لا ينتهي، ففي حين يقرر ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، ويتحدث عن «صفقة تاريخية» لإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط، ضارباً عرض الحائط بكل الحقوق الفلسطينية، الوطنية والإنسانية، تراه يتحدث حول الأزمة مع كوريا الشمالية بلغة أخرى قد يستحق عليها جائزة نوبل.
لقد تحدث ترامب عن الاستعدادات الجارية لعقد لقاء قمة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جون أون، قائلاً: «إنهم يحترموننا، ونحن نحترمهم. حان الوقت لكي نتحدث ونحل المشكلات. هناك فرصة حقيقية لحل مشكلة عالمية. هذه ليست مشكلة الولايات المتحدة واليابان أو بلد آخر، هذه مشكلة يواجهها العالم».
أما في القضية الفلسطينية والاتفاق النووي الإيراني، فخطاب الرئيس المقاول مختلف. والسبب قد يكون معلوماً ومفهوماً، فلزعيم بيونغيانغ «زر نووي» لا يقل تدميراً وفتكاً من زر ترامب، وبكل تأكيد لو كان لدى إيران برنامج لإنتاج الأسلحة النووية –كما تزعم واشنطن وتل أبيب– لما أقدمت الولايات المتحدة على الانسحاب أصلاً من الاتفاق النووي، ولما تجرأت الدولة الصهيونية على الاستمرار في التحرش بإيران واستفزازها.
Leave a Reply