نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«مؤشر سلبي»… بهذه العبارة استقبل الكثير من المعلّقين الروس، خلال اليومين الماضيين، الجلبة السياسية التي سادت الولايات المتحدة، والتي نتج عنها أول اهتزاز للبيت الأبيض في عهد دونالد ترامب، بعد استقالة مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين.
ليس الأمر بالنسبة إلى الروس مجرّد «شأن داخلي»، وهي العبارة الديبلوماسية التي علّق بها المتحدث باسم الكرملين على قرار الاستقالة الذي أرغم عليه الجنرال فلين، فالمسألة تعني روسيا بالدرجة الأولى، إن في حيثيات الأزمة السياسية، لجهة إقحام الاتصالات التي قام بها المستشار الرئاسي بالسفير الروسي، أو لجهة ما تحمله الاستقالة، التي تبدو أقرب إلى إقالة، من بوادر غير مشجعة لجهة تحسين العلاقات الروسية–الأميركية.
وثمة في موسكو من يعتقد فعلاً بأن مايكل فلين، ما هو إلا كبش فداء، تمت التضحية به، من قبل بعض الدوائر، سواء في البيت الأبيض أو في الكونغرس، لمنع إدارة الرئيس دونالد ترامب من تحقيق أي تقارب أميركي–روسي، بعد سلسلة تصريحات مطمئنة صدرت من الرئيس الأميركي الجديد.
وفي تقييم أولي لما جرى، تفاوتت تقديرات الدوائر السياسية الروسية بين من قال إن «فلين لم يكن المستهدف وإنما العلاقات مع روسيا»، وبين من وضع احتماليتين لما جرى، فإما أنّ ترامب لا يملك الاستقلالية اللازمة في القرارات، وبالتالي فإن ثمة من نجح بحشره في الزاوية، أو أن «حُمَّى معاداة روسيا» قد نالت من الإدارة الجديدة.
معسكران
مستشار الرئيس ترامب قد قدم استقالته، الاثنين الماضي، بعد أن اعترف بأنه أعطى «معلومات غير كاملة» حول مناقشة عقوبات الولايات المتحدة على روسيا مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك في الولايات المتحدة قبل تولي ترامب منصبه رسمياً.
ولعل ما يثير ريبة الروس في هذا السياق، أن موضوع العقوبات الأميركية المفروضة على موسكو قد كانت في صميم تلك الأزمة السياسية الأولى التي تواجه ترامب، لا بل أن طريق فلين إلى الاستقالة كانت معبّدة بألغام من قبيل أن المستشار الرئاسي، ومن خلال لقائه السفير الروسي، أعطى الكرملين إشارة مغلوطة بأن موسكو يمكن أن تنتظر تخفيف العقوبات التي فرضتها إدارة باراك أوباما ضد روسيا على خلفية هجماتها الإلكترونية المفترضة على الانتخابات الرئاسية في العام 2016، فيما نفى فلين حينها أنه بحث العقوبات مع السفير الروسي، لكنه أوضح فيما بعد عبر متحدث باسمه، إن ما قصده هو أنه لا يذكر ما إذا كانت العقوبات قيد البحث، لكنه لا يستطيع البت في أن هذا الموضوع لم يطرح بتاتاً.
ويبدو أن الأزمة لا تقف عند فلين، فبحسب الصحافة الأميركية، ثمة سجلات هاتفية ومكالمات تم رصدها تظهر أن أعضاء في حملة دونالد ترامب الرئاسية، ومساعدين آخرين له، اتصلوا مراراً بمسؤولين في الاستخبارات الروسية خلال العام الذي سبق الانتخابات.
وإذا كان طبيعياً أن تصبح «الفضيحة» التي خرجت من البيت الأبيض مادة خصبة لإطلاق المسؤولين الديمقراطيين في مجلس النواب الأميركي انتقاداتهم اللاذعة بحق ترامب، فإنّ ثمة من يعتقد بأن فريقاً داخل الإدارة الأميركية نفسها، مستفيد من تلك الجلبة السياسية، خصوصاً أولئك الذين يعارضون تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز» المعارضة للعهد الجديد، فإنّ «مصير فلين لا يتعلق فقط بكونه ارتكب مخالفة قانونية أم لا ولكن أيضا لوجود معسكرات منفصلة داخل إدارة ترامب، أحدها هو معسكر مايكل فلين، والأخر هو المعسكر المعارض له بقيادة ستيف بانون كبير مستشاري ترامب»، مشيرة إلى أن فلين، وعلى عكس بانون، لم يكن يحظى بتفضيل ترامب، خصوصاً أن بانون يعد الأقرب إلى الرئيس الأميركي حتى من ابنته ايفانكا وصهره جاريد كوشينر، لدرجة أن كثيرين يصفونه بأنه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة!
تبعات خروج فلين
ومما لا شك فيه أن خروج فلين بـ«شبهة التواطؤ مع روسيا»، سينعكس على شكل العلاقة المستقبلية بين موسكو وواشنطن، حيث ستثير هذه القضية أزمة ثقة داخل البيت الأبيض، وقد تدفع ترامب لمحاولة تبييض صفحته أمام معارضيه بمزيد من التعنت تجاه الرئيس فلاديمير بوتين، بما يصل إلى إمكانية فرض عقوبات جديدة.
ولعل ذلك الأمر، إن حدث، سيؤدي إلى تراجع منسوب التفاؤل بشأن تسوية الكثير من القضايا الحساسة في العالم، بما في ذلك الأزمة السورية.
وكان ملفتاً في هذا الإطار، أن الإدارة الأميركية لم تنتظر أكثر من 24 ساعة على استقالة فلين، حتى كشفت تقارير إعلامية عن خطط جديدة لإقامة مناطق آمنة في بعض أجزاء سوريا بغرض «حماية الأشخاص الفارين من العنف»، وعن احتمال إرسال قوات عسكرية لقتال «داعش»، وهو أمر ربما يعيد الامور إلى نقطة البداية. وتعتبر فكرة إقامة مناطق آمنة في سوريا، فكرة تركية في أساسها، حيث قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ما مضى، إن إقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سوريا و«تطهيرها» من تنظيم «داعش» من شأنه أن يسهل عودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم.
وترغب تركيا في إقامة منطقة عازلة، تتطلب إقامة جيب في سوريا يمتد من جرابلس الشمالية شرقاً إلى مارع غرباً بطول 90 كيلومتراً، وبعمق 50 كيلو متراً، أي بمساحة تقدر بـأربعة آلاف و 500 كيلومتر مربع، في مقابل أن تقوم بفتح مجالها الجوي وقاعدة «أنجرليك» العسكرية أمام طائرات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة.
وإذا اتخذ فعلاً قرار إقامة مناطق آمنة في سوريا، والتي من شأنها أن تزيد التدخل العسكري الأميركي في سوريا، فإن ذلك يعتبر انحرافاً كبيراً عن نهج أوباما، لكن الاخطر أن خطة كهذه ستتطلب قواعد اشتباك صارمة، خصوصاً أن المناطق قد تكون ضمن إطار دائرة العمليات العسكرية الروسية في سوريا.
تصعيد مع روسيا؟
ويرى محللون في مراكز دراسات أميركية أن فكرة إقامة المناطق الآمنة في سوريا من شأنها تعزيز احتمال التصعيد بين الولايات المتحدة وروسيا، في ظل حاجة تلك المناطق إلى إقامة حظر طيران فوقها لحماية المدنيين، وقد يؤدي إلى حوادث طيران مثل تلك التي كادت أن تحدث فوق البحر المتوسط، بين طائرة روسية وأخرى أميركية تابعة لقوات التحالف الدولي، أو حتى حادثة خطيرة على غرار اسقاط طائرة السوخوي الروسية في أجواء الحدود السورية التركية.
والملفت للانتباه أن إدارة ترامب لم تشاور الجانب الروسي في موضوع المناطق الآمنة في سوريا، وفقاً لما أكده الكرملين، محذراً من العواقب المحتملة لتلك الخطوة.
ولكن ثمة من يعتقد أن أي تحرّك اميركي جديد في سوريا لن يكون ممكناً قبل اللقاء المرتقب بين الرئيسين ترامب وبوتين، والذي بدأت الاستعدادات لعقده في بلد محايد، مثل سلوفينيا… وحتى ذلك الوقت، يبدو الجانبان على اهبة الاستعداد للجلوس على طاولة المفاوضات المرتقبة، وفي يدي كل منهم أوراقه الخاصة، التي ستفرض الكثير من الترتيبات المسبقة، لا سيما في ما يتعلق بالملفين الأكثر إثارة للخلافات، أي سوريا وأوكرانيا، وهو ما يفسر على سبيل المثال الجهود الديبلوماسية الحثيثة التي تشهدها الأزمة السورية بين أستانا وجنيف من جهة، وتسخين الجبهات في شرق أوكرانيا من جهة أخرى.
Leave a Reply