محمد العزير
أفاقت العاصمة الأميركية واشنطن يوم الجمعة قبل الماضي على مشهد لم تعهده من قبل. شاهد العابرون لجادة بنسلفانيا، وجلّهم من السياسيين والموظفين في البيروقراطية والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، المقر الرئيس لمكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) مسوراً بالأسلاك الشائكة والعوازل الحديدية ومحاطاً بسيارات الشرطة. لطالما أثار هذا المبنى الواقع في منتصف الطريق تقريباً بين مقر الكونغرس والبيت الأبيض، والرجل الذي يحمل اسمه، جاي إدغار هوفر، الرهبة والخوف في نفوس المسؤولين المنتخبين والمعينيين والموظفين العموميين، لما يمثله من سلطة أمنية حاسمة وحازمة وفوق الشبهات، ولم تتعود العيون رؤيته مذعوراً حتى في أحلك الظروف بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.
لكن ما بعد ولاية دونالد ترامب، الرئيس الخامس والأربعين لأميركا، ليست كما قبلها، صار «أف بي آي» هدفاً مباحاً لليمين الأميركي ككل، ولم يعد «خصم» المتطرفين والمتعصبين الفاشيين فقط. فقد تحولت مداهمة مقر إقامة ترامب في منتجع «مارالاغو» بولاية فلوريدا في وقت سابق من الشهر الجاري، ومصادرة عشرات الصناديق من الوثائق الحساسة وبالغة السرية التي حملها معه من البيت الأبيض، إلى لحظة الذروة في الهجوم المحافظ الشامل على الحكومة الفدرالية ككل وعلى وزارة العدل والأجهزة الأمنية التي تتولى التحقيق في قضايا ترامب على وجه التحديد. وكانت أول ترجمة ميدانية للنبرة الاتهامية العالية مهاجمة جندي سابق من سلاح البحرية، المقر الإقليمي للـ«أف بي آي» في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو قبل أن يقتل إثر مطاردة استمرت ست ساعات.
جاء الهجوم في اليوم نفسه الذي صدر فيه تقييم مشترك لوزارة الداخلية والـ«أف بي آي» يحذر من ازدياد خطر التطرف اليميني على القوى الأمنية الفدرالية والمحلية والذي بلغ درجات غير مسبوقة في ظل حملة تحريض إعلامية قادها ترامب وعائلته وفريقه الانتخابي، وشارك فيها عدد من الشيوخ والنواب الجمهوريين، وجعلت منها وسائل الإعلام اليمينية صيحات حرب متواصلة باسم الدفاع عن ترامب وعن الحريات الشخصية، ولم تتورع عن ترداد تعبير الحرب الأهلية والتحذير منها، أو بالأحرى الترهيب بها، وهو ما وجد صداه الشعبي في تظاهرات ومسيرات، بعضها كان مسلحاً أمام مقرات الحكومة الفدرالية والمكاتب الإقليمية للـ «أف بي آي» في أكثر من ولاية، فضلاً عن تسونامي التغريدات والمداخلات المعادية عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ناهيك عن اتصالات التهديد للمقرات الأمنية وقياداتها وافرادها.
ككل شيء في المشهد الأميركي، لم تأت هذه المواجهة من فراغ. بل هي تتويج لحقبة طويلة من التحريض اليميني، الذي بدأ بعدما قرر الجمهوريون في أواخر الستينيات، وبعد إقرار قوانين الحقوق المدنية، إتمام الطلاق بينهم وبين تاريخ انتصارهم في الحرب الأهلية التي قادها مؤسس الحزب أبراهام لنكولن ودفع حياته ثمناً لها، والتوغل في استثمار وتأطير المشاعر العنصرية البيضاء الأوروبية الأصل، لاكتساب ولايات الجنوب (التي خسرت الحرب الأهلية، وبقيت مصرة على عنصريتها)، وهو ما بدأ بالفعل مع رئاسة رونالد ريغان الذي ترشح وفاز لدورتين تحت شعار تحجيم الحكومة الفدرالية واسترداد حقوق الولايات وكف يد المؤسسات الرقابية الوطنية وتحرير الرأسمالية الصرفة من أية قيود قانونية تحد من سلوكها الاستغلالي للموارد البشرية والطبيعية على السواء.
تلازمت مقولة «تحجيم الحكومة الفدرالية ودورها» (التي تعني ضمنياً الحفاظ على مصالح البيض) مع نشوء حركة أهلية يمينية عابرة للولايات تستند إلى الميليشيات والتشكيلات الفاشية الجديدة التي ورثت تنظيم «كوكلاكس كلان» للتصدي لإدارة الحكومة للأراضي الفدرالية خصوصاً في الولايات الجنوبية والغربية التي تبلغ ملكية الحكومة الفدرالية للأراضي في بعضها 80 بالمئة. حملت الحركة اسم «انتفاضة المريمية» (نسبة إلى شجيرات المريمية) وقادها في السبعينات كبار ملاكي الأرض وأصحاب مزارع الأبقار لمنع الإدارة الفدرالية من تخصيص بعض الأراضي كمحميات بيئية أو حدائق عامة، لأن ذلك يعني منع الاستثمار التجاري أو التنقيب عن النفط والغاز والمعادن فيها. بطبيعة الحال تلقت الحركة دعماً مباشراً من شركات النفط والغذاء، وتحولت إلى وسيلة مضمونة لتجييش الصوت اليميني في الانتخابات، وكان رونالد ريغان أول مرشح رئاسي يعلن انضمامه إلى «الانتفاضة» عام 1976.
ما لبثت هذه الحركة أن تحولت إلى ظاهرة تستقطب الميليشيات والرؤوس اليمينية الحامية، وكانت من خلال قنواتها المفتوحة مع الحكومات المحلية وممثلي الولايات الجنوبية والغربية في مجلسي الشيوخ والنواب على دراية كاملة بخطط الحكومة الفدرالية فيما يتعلق بإدارة الأراضي، وكانت قادرة على اختيار معاركها بعناية لضمان الفوز فيها خصوصاً عندما تكون الحكومة الفدرالية تحت إدارة رئيس ديمقراطي.
تطورت المواجهات المتعلقة بالأرض لاحقاً إلى مواجهات مسلحة مع الأجهزة الأمنية، كما حصل في بلدة روبي ريدج في ولاية آيداهو عام 1992، حيث قتل رجل وابنه وضابط أمن فدرالي بعد حصار استمر 11 يوماً، ومقتل 76 شخصاً في بلدة وايكو في تكساس عام 1993 بعد حصار الداعية ديفيد كوريش واتباعه 51 يوماً في مزرعة تحصن فيها، ومواجهة «كليف بوندي» في بروكفيل بولاية نيفادا عام 2014، واحتلال مكتب الموارد الطبيعية في بلدة بيرنز في ولاية آيداهو عام 2016. وكانت هذه المواجهات معيناً لا ينضب للتحريض اليميني سياسياً واعلامياً.
إلا أن أبرز الأعمال المعادية للحكومة الفدرالية كانت بلا منازع عملية تفجير المبنى الفدرالي في أوكلاهوما سيتي بولاية اوكلاهوما التي نفذها جندي «المارينز» السابق تيموثي مكفاي وأدت إلى مقتل 168 شخصاً وجرح حوالي 700 في التاسع عشر من نيسان (أبريل) 1995، وذلك حتى اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الثاني (يناير) 2021، لمحاولة منع التصديق على انتخاب جو بايدن خلفاً لترامب الذي تولى شخصياً حشد عشرات الآلاف من مناصريه وتحريضهم خطابياً لساعات عديدة قبل إطلاقهم باتجاه مبنى الكابيتول لتعطيل المراسم البروتوكولية للمصادقة على نتائج الانتخابات.
حتى وصول ترامب إلى الرئاسة، كانت الميليشيات اليمينية والحركات الأهلية ذات التوجهات العنصرية تعمل بتلقائية في مواجهة فضفاضة مع الحكومة الفدرالية. غير أن فوز ترامب الذي عرف كيف يستثمر في المشاعر العنصرية على أتم وجه، وفر لهذه المكونات رأساً موحداً منحها الشرعية السياسية والكيانية ووضعها في سياق ميداني واضح الأهداف، ومع استمرار تراكم المشاكل القانونية لترامب المسيطر بشكل شبه كامل على المؤسسة السياسية للجمهوريين، سيكون على أميركا أن تتعلم لغة جديدة في الداخل تقل عن درجة الحرب الأهلية لكنها تتعدى مستوى تصرفات «العناصر غير المنضبطة»، وسيكون على الحكومة الفدرالية التخلي عن الكيل الداخلي بمكيالين، فلو كان مصدر التهديد أسود أو من السكان الأصليين لما تردد «أف بي آي» في البطش الدموي الساحق، كما حصل مع «الفهود السود» في الستينيات والسبعينيات مثلاً، أو كما حصل مع السكان الأصليين في السابق.
Leave a Reply