بيروت– لم يكن قد مضى ثلاثة أيام على زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الى بنت جبيل عاصمة المقاومة، مع أركان الدولة، لتدشين إعادة إعمار المدينة التي هدمها العدوان الإسرائيلي في صيف 2006، إضافة الى بلدات أخرى، حتى كانت منطقة الشريط الحدودي في بلدة العديسة، مسرحاً لاشتباكات بين الجيش اللبناني وقوات الاحتلال الإسرائيلي التي تصدى لمحاولتها الاعتداء على السيادة اللبنانية، في تطور هو الأول من نوعه منذ وقف الأعمال العسكرية بناء لقرار مجلس الأمن 1701 قبل أربع سنوات، إذ نفذت الوحدات العسكرية اللبنانية المنتشرة على طول الحدود عند الخط الأزرق، أوامر قيادة الجيش في التصدي المباشر ووفق الوضع الميداني لأي عمل إسرائيلي عدواني، إذا لم تتم إزالته بالطرق السلمية عبر قوات الطوارئ الدولية، التي وقفت متفرجة على الجيش وهو يمنع دورية إسرائيلية كانت تقوم بنزع شجرة من داخل الأرض اللبنانية متنازع على ترسيمها ، لتركيب كاميرا عليها، مما طرح تساؤلات حول دور هذه القوات في مؤازرة الجيش اللبناني لحماية سيادة لبنان ومنع إسرائيل من اجتياحها، فلم يقم جنود القبعات الزرقاء، بما يفرضه عليهم واجبهم وفق القرار الدولي، حتى أنهم لم يقوموا بمهمة إنسانية بنقل الشهداء والجرحى المصابين من الجيش والصحافيين والمدنيين، وهو ما ترك صدمة لدى اللبنانيين ، عن أن القوات الدولية جاءت لتكون حارس حدود لإسرائيل، ومن أجل التجسس على الجيش والمقاومة، والبحث عن سلاح المقاومة، وهي اصطدمت مع الأهالي، لأنها قامت بمهمة غير تلك التي كلّفت بها، وهي القيام بدوريات داخل الأحياء في البلدات والقرى الجنوبية، ومداهمة المنازل من دون وجود للجيش، مما أدى الى اصطدامها بالمواطنين المدنيين الذين شهدوا مناورات لبعض الوحدات العاملة في القوات الدولية، تحاكي إطلاق صواريخ من لبنان باتجاه إسرائيل، وهذا العمل استفز الأهالي، الذين ظنوا أن هذه القوات ستشكل مظلة دولية لهم تحميهم من الاعتداءات الإسرائيلية، إلاّ أن تجربتهم معها تؤكّد عدم رهانهم عليها، إذ حصل الغزو الصهيوني عام 1982 تحت مرأى القوات الدولية، التي جاءت لتنفذ القرار 425 الصادر عام 1978، ولم تفعل طيلة 22 عاماً، بفرض الانسحاب على إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، ففعلت ذلك المقاومة بتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط في 25 أيار 2000.
لقد حصل الاعتداء الإسرائيلي على الجيش بعد يومين من تخريج قيادته حوالي 250 ضابطاً في المدرسة الحربية، وتأكيد قائده العماد جان قهوجي على تعاون الجيش والمقاومة واحتضان الشعب لهما في الدفاع عن لبنان، وهو تطبيق لما ورد في البيان الوزاري للحكومة الحالية والحكومات السابقة، وهو ما تكرّس أيضاً على الأرض خلال عقدين من الزمن، وهذا ما أغضب إسرائيل التي هدّدت بلسان قادتها، وكان آخرهم وزير الدفاع إيهود باراك، بأن دولته ستتعاطى مع الحكومة اللبنانية على أنها مسؤولة عن تسلح “حزب الله”، وعلى تبنيها للمقاومة، مما سيعرض مؤسسات الدولة للاعتداء، وستكون تحت مرمى النيران الإسرائيلية، حيث لم تمض أسابيع وأيام، حتى كان الاعتداء على الجيش، عبر استهداف سيادة لبنان، وهي رسالة إسرائيلية لامتحان القرار السياسي اللبناني، وما إذا كان سيترجم فعلياً، وهو ما حصل، إذ أن وحدات الجيش وبعد أن استنفدت اتصالاتها مع القوات الدولية، لمنع دورية إسرائيلية من الدخول الى الأرض اللبنانية، أصبحت في مواجهة مع قوات الاحتلال التي فتحت النار باتجاه مراكز للجيش في بلدة العديسة، مما اضطره الى الرد، فقتل ضابطاً إسرائيلياً برتبة مقدم وجرح جندياً، حيث فوجئت القيادة العسكرية الصهيونية برد الجيش، فأمر رئيس الأركان غابي أشكينازي بقصف مواقع للجيش، ومنها حاجز استشهد عنده عنصران منه، إضافة الى مراسل جريدة “الأخبار” عساف أبو رحال، وإصابة مراسل تلفزيون المنار علي شعيب بجروح، إضافة الى عسكريين ومدنيين.
هذا الاعتداء، كان محاولة جس نبض إسرائيلية، لمعرفة جهوزية الجيش في الرد، ومعرفة رد المقاومة، التي أعلنت باسم قائدها السيد حسن نصر الله بأنها استنفرت عناصرها، ووضعتهم بتصرف قيادة الجيش، إذا ما تطورت الأوضاع، وراقبت ما يجري، وكي لا تترك للعدو أن يتخذ قرار المباغتة، الذي تتوقعه المقاومة أن يحصل في أية لحظة منذ وقف الأعمال العسكرية في 14 آب 2006، لأن الجيش الإسرائيلي لن يسكت عن هزيمة جيشه “الذي لا يقهر”، وهو يقوم بالمناورات ويتسلح ويتدرّب، ويجري إعداد الجبهة الداخلية، ويرسل التهديدات، ويحاول خلق الذرائع من أجل أن يعيد المغامرة من جديد، لعله يحظى بفوز ويسحق المقاومة ويدمر سلاحها.
فما حصل عند الحدود اللبنانية–الإسرائيلية، كان مناورة لقوات الاحتلال لم تنجح، لأن الجيش غير المحصّن في مواقعه، والمكشوف بمراكزه وعناصره وآلياته، استطاع أن يواجه بأسلحته الخفيفة دبابات العدو وطيرانه، وهو صمد في مواقعه، ولم يتركها، ووقف الى جانبه المقاومون والأهالي، ينتظرون لحظة ما ستطلبه منهم القيادة العسكرية للمساندة والمؤازرة، وقد استحق الجيش في تصديه على إجماع اللبنانيين بالوقوف معه، والإشادة بالدور الوطني الذي أدّاه، والمطالبة بزيادة تسليحه بما يناسب، لمواجهة إسرائيل المدججة بالسلاح، والمفتقدة الى إرادة القتال والصمود، إذ فرّ عدد من الجنود من المواجهة واختبأوا في خنادقهم ووراء آلياتهم، كما أن المستوطنين الصهاينة ذهبوا الى الملاجئ، في وقت كان أبناء القرى المواجهة يتابعون أعمالهم، ويتفرجون على سير المعركة، وبعضهم تأهب للقتال الى جانب الجيش، وهذا مشهد أخاف الإسرائيليين أكثر، لأن أبناء الجنوب لم يعودوا ينزحون عن قراهم وبلداتهم بل هم يقيمون فيها، وقد قاتلوا منها محاولات العدو الإسرائيلي التقدم باتجاه عيتا الشعب ومارون الراس والخيام وغيرها أثناء حرب 2006.
لقد كرّست معركة العديسة، عقيدة الجيش القتالية، وأسقطت نظرية قوة لبنان في ضعفه، ولم يعد أرضاً سائبة يمكن للعدو أن يدخلها ويقتطع منها، كما حصل في السابق، إذ اختلف الوضع بعد التحرير عام 2000، ومنذ الصمود والانتصار عام 2006، وأصبحت إسرائيل تدرك أنها فعلاً أمام جيش ومقاومة وشعب، سيواجهون أية محاولة منها لاحتلال شبر من لبنان، وأن هذه الإستراتيجية الدفاعية التي يدور النقاش حولها على طاولة الحوار منذ أكثر من عامين، قد أثبتت فعاليتها على الأرض، ولم تعد مجرد نظرية.
وكشفت الوقائع العسكرية التي حصلت عند الحدود الجنوبية، أن قرار الحرب والسلم هو بيد إسرائيل، وأن لبنان يمتلك قرار الدفاع عن أرضه، ومقاومة الاحتلال، وهذا ما ثبت في الميدان، بأن الجيش لديه القرار بمواجهة أي تقدم أو تغلغل إسرائيلي في الأرض اللبنانية، وأن من أولى واجباته الوطنية الذود عن السيادة، وهذا ما مارسه، وبخلاف ما كان يحصل في السابق، حيث كانت الأوامر، أن لا قدرة للبنان على مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية، وأن قوة لبنان في ضعفه، ويلجأ الى الوسائل الدبلوماسية لحل مشاكله مع إسرائيل، ويستخدم المقاومة الدبلوماسية، إلاّ أن كل هذه الأساليب أثبتت فشلها، ونجحت المقاومة العسكرية في تحرير الأرض، وإقامة توازن ردع مع اسرائيل، الذي بات يدرك صعوبة أن يعتدي على لبنان، لأن كلفة اعتدائه ستكون عالية جداً، مع التطور النوعي في السلاح الذي تملكه المقاومة، التي لا تخفي أن لديها من الأسلحة البرية والبحرية وحتى الجوية، بمعنى الدفاع الأرضي الجوي، الذي لمّح له إليه السيد نصر الله، دون أن يعلن عنه تحت عنوان “الغموض البناء”.
وبالرغم من محدودية ما حدث في العديسة، وتم تطويقه دولياً، إلاّ أنه مؤشر الى ما تحضّر له إسرائيل وهو شن حرب على لبنان، في توقيت تراه هي، والتي بينت وقائع ما جرى عند الخط الأزرق، أن قرار الحرب لدى قادة العدو متخذ، ويبقى التنفيذ ينتظر الضوء الأخضر الاميركي، كما ان التأخير مرتبط بما سيصدر من قرار ظني عن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما توقعه رئيس أركان جيش العدو غابي اشكنازي من اتهام سيطال “حزب الله”، الذي سيغرق في حرب أهلية، ووقوعه في فتنة مذهبية، حدد موعدها في شهر أيلول، مما سيقرب موعد الحرب الأهلية اللبنانية، التي أسرع الرئيس السوري بشار الأسد والعاهل السعودي الملك عبد الله معاً الى لبنان من اجل إطفائها ومنع حصولها، والحفاظ على الاستقرار الداخلي الذي ينعم به اللبنانيون، نتيجة حصول المصالحة السورية-السعودية، التي في كنفها وتحت رعايتها تشكلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري، حيث أكد البيان المشترك السوري-السعودي على استمرار الدعم للسلم الأهلي والوفاق الوطني ومؤسسات الدولة في لبنان.
ولم يغب ما قد يصدر عن المحكمة عن لقاء القمة السورية– السعودية، ولا عن القمة الثلاثية اللبنانية–السورية–السعودية التي انعقدت في قصر بعبدا، إذ كان تأكيد على ضرورة، ان لا يحصل تسييس لهذه المحكمة، التي يتم توجيهها حسب رغبة مصالح الدول، وهذا ما حصل منذ وقوع جريمة اغتيال الحريري، إذ تم استغلالها سياسياً وبعيداً عن الحقيقة في كشف المجرمين للضغط على سوريا لتقديم تنازلات للمشروع الاميركي– الاسرائيلي، وإحداث انقلاب سياسي وامني في لبنان، عبر استلام مجموعات سياسية للحكم متعاونة مع أميركا وتعمل لخدمة أهدافها في لبنان، وقد استخدمت لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري لهذا الهدف، عبر توقيف الضباط الأربعة الذين تمت تبرئتهم من كل التهم التي سيقت ضدهم من شهود الزور.
وقد عرض الرئيس الأسد للملك عبد الله، مراحل تسييس التحقيق، وتطوره وأهدافه ليؤكد له، ان هدف اغتيال الحريري للوصول الى المقاومة ومن يدعمها، وهذا ما لا نقبله ان تكون هذه الجريمة التي تستغلها اسرائيل الغاية منها، قطع رأس المقاومة عبر افتعال صراع سني-شيعي، ستكون انعكاساته السلبية على كل العالم العربي وحتى الإسلامي، وان ما يشهده العراق، يؤكد على المشروع الاميركي الذي استهدف المنطقة لتقسيمها خدمة لأمن ووجود اسرائيل، وان لبنان هو المكان الذي سيعاد تفجير الوضع فيه لإنهاك المقاومة وإنهائها، بعد ان انتصرت على اسرائيل، وشكلت نموذجاً يحتذى في استرداد الارض، بعد انسداد أفق السلام، واستعداد الدولة العبرية للحرب.
لقد انتهت القمة الثلاثية في بيروت الى تأكيد ان معالجة موضوع المحكمة، ستكون بعهدة الملك عبد الله، الذي سيعالجها بحكمته لمنع تسييسيها، لان المطلوب معرفة الحقيقة باغتيال الحريري، وليس اغتيال لبنان، كما اثبتت وقائع ما بعد 14 شباط 2005.
Leave a Reply