بعد اكثر من اربع سنوات على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يتوصل التحقيق الدولي بعد الى الحقيقة في هذه الجريمة، التي قد يطول الزمن لاكتشافها او الكشف عنها، لان من يدّعي انه يريد الحقيقة، من آل الحريري وستيار المستقبلس وقوى ”١٤ آذار”، ساهموا في تضليل التحقيق باختلاق شهود زور، لحرفه عن المعلومات التي توصلت اليها الاجهزة الامنية والقضائية، خلال الساعات الاولى لوقوع الجريمة، من ان التفجير نفذه انتحاري، وان شريط التسجيل لاحمد ابو عدس لم يكن مركباً، وان جهات اسلامية اصولية، قد تقف وراء هذا العمل الاجرامي، وان ستة اشخاص سافروا الى استراليا عبر مطار بيروت، قد يكونون متورطين في الجريمة، وان اتصالات هاتفية رصدت في منطقة الشمال تدل على ذلك.
ومع المعلومات الاولية التي اذاعها وزير الداخلية سليمان فرنجية في حكومة الرئيس عمر كرامي آنذاك، التي تؤكد التوصل الى خيوط تتعلق بالجريمة، بدأ فريق ”ثورة الارز” الذي اعدته ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، والذي كونته في ”لقاء البريستول”، من ”لقاء قرنة شهوان” الذي كان يرعاه البطريرك نصرالله صفير وانضم اليه نواب من كتلة ”تيار المستقبل” برئاسة الحريري، ونواب من كتلة وليد جنبلاط، بهجوم مضاد، ومنذ اللحظات الاولى لاخذ التحقيق باتجاه اخر، فرفعت صور قادة الاجهزة الامنية وهم: مدير عام قوى الامن الداخلي اللواء علي الحاج، مدير عام الامن العام اللواء جميل السيد، مدير المخابرات في الجيش العميد ريمون عازار، مدير عام امن الدولة اللواء ادوار منصور (نزعت صورته بعد اسابيع)، مدعي عام التمييز السابق وزير العدل عدنان عضوم، بالاضافة طبعاً الى صور لضباط سوريين من ابرزهم اللواء رستم غزالي.
وبعد ساعات على الاغتيال، صدر بيان عن القوى السياسية التي كانت في موقع المعارضة يوجه الاتهام الى النظام الامني اللبناني-السوري المشترك، وقد ضغطت هذه القوى في الشارع لاستقالة حكومة كرامي التي لم يكن مضى اكثر من ثلاثة اشهر على تشكيلها، واقالة المسؤولين الامنيين وانسحاب القوات السورية من لبنان.
لقد ظهرت الاهداف السياسية للاغتيال وهي احداث انقلاب سياسي وامني في لبنان ونقله من موقع التنسيق والتعاون مع سوريا، الى موقع مناهض لها، والتحالف مع ادارة بوش الذي رسم مشروعاً للمنطقة اطلق عليه تسمية ”الشرق الاوسط الجديد او الكبير”، وانه يروّج للديمقراطية فيها، ومنها لبنان، الذي اراده الرئيس الاميركي السابق منصة لاطلاق مشروعه، بعد ان فشل في العراق، واتهم سوريا بعرقلته، بدعمها للمقاومة فيه وفي فلسطين ولبنان، وقرر ”المحافظون الجدد” في البيت الابيض وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، الضغط على سوريا من لبنان، بعد ان فشلوا في اسقاط نظامها او احتلالها عسكريا، فكان لا بد من مخطط ضدها، فكانت جريمة اغتيال الحريري، التي سبقها تهيئة الاجواء السياسية والشعبية والاعلامية في لبنان، ضد الوجود السوري، وقد تبنى البطريرك صفير هذه المهمة من خلال البيان الشهير للمطارنة الموارنة في ايلول عام ٢٠٠٠، والذي انضم اليه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وانشئ ”لقاء قرنة شهوان” كمكتب سياسي لبكركي برئاسة المطران يوسف بشارة، يدير العملية السياسية والاعلامية، في الوقت الذي كانت الادارة الاميركية، تصدر القرارات ضد سوريا، وتطالب بمحاسبتها، الى ان كان القرار ١٥٥٩ الذي صدر عن مجلس الامن الدولي مع مطلع ايلول ٢٠٠٤، والذي كان بمثابة امر عمليات ضد سوريا وضد المقاومة في لبنان، مستغلين التمديد للرئيس اميل لحود.
هذه الاجواء الاميركية المستندة الى ”محافظين جدد” في لبنان، عبر ”لقاء قرنة شهوان”، هيأت لمسرح الجريمة، بالشحن والتحريض ضد سوريا بدأ من العام ٢٠٠٠، وازداد مع الاحتلال الاميركي للعراق، وكان سبقه ايضاً، مطالبة ”حزب الله” بوضع سلاحه بتصرف الدولة، ووقف المقاومة وترك تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا للاطر الدبلوماسية، ورفع وليد جنبلاط شعار ”لبنان هانوي او هونكونغ”، وهكذا بدأت تظهر معالم انقلاب على خيارات لبنان الوطنية، ودعوات الى سحب سوريا قواتها، و”حزب الله” انهاء وجوده كتنظيم مقاوم والتحول الى حزب سياسي، حيث ترجمت هذه الشعارات في القرار ١٥٥٩، بعد ان انضمت فرنسا الى الولايات المتحدة الاميركية، وتبنت سياستها في المنطقة ضد سوريا ولبنان، حيث غلّب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مصالحه الشخصية وعلاقاته مع الرئيس الحريري على مصلحة فرنسا، التي تغيرت مع انتخاب الرئيس نيكولا ساركوزي واعاد الانفتاح على سوريا، ومثله فعلت الادارة الاميركية الجديدة برئاسة باراك اوباما، حيث تبدّل المشهد الدولي، كما تغير ايضاً السلوك العربي الذي مثلته السعودية ضد سوريا، والتي كانت تشتبه بان قيادتها قد تكون وراء اغتيال الحريري، من خلال التقارير والمقابلات المزورة، التي زودها بها نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام.
فمنذ اغتيال الحريري، كان الاتهام الذي تذرع به من اطلقه بانه سياسي، ضد سوريا وحلفائها في لبنان، وتم التركيز على انهاء كل الوجود السوري في مؤسسات الدولة، من خلال الاجهزة الامنية والقضائية التي يقال ان المسؤولين السوريين ساهموا في تركيبها من خلال شخصيات موالية لهم، ولكن لا بد من تغيير الحكومة، والوصول الى اغلبية نيابية، وهكذا تم الضغط لاستقالة الرئيس عمر كرامي وحكومته، وجيء بحكومة نجيب ميقاتي لتكون انتقالية للاشراف على انتخابات نيابية، وتمت خديعة قوى ٨ اذار وعلى رأسهم ”حزب الله” بضرورة قيام تحالف رباعي في الانتخابات، تجاوب الحزب معه، تحت عنوان منع انزلاق لبنان نحو فتنة مذهبية سنية-شيعية، طلت في رأسها منذ اللحظات الاولى لاغتيال الحريري، فانكشفت اهداف الجريمة، بـ”عرقنة لبنان” وتقسيمه، كما حصل في العراق بعد احتلاله من قبل القوات الاميركية.
تم اسقاط حكومة كرامي، وفازت قوى ”١٤ آذار” بالاغلبية النيابية، وشكلت حكومة برئاسة فؤاد السنيورة، في الوقت الذي كانت الحملة تتصاعد على الرئيس اميل لحود وتطالبه بالاستقالة او اخراجه عنوة من القصر الجمهوري، لكنه صمد واحبط كل المحاولات، واستمر حتى اليوم الاخير من ولايته.
ولما فشلت خطة اسقاط لحود قرر فريق ”١٤ آذار” النيل منه من خلال قادة الاجهزة الامنية ومن قائد حرسه الجمهوري، فتم استدعاء العميد مصطفى حمدان الى التحقيق امام لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس الذي احضر له فريق ”ثورة الارز” الشهود الزور وفي مقدمهم ما سمي ”الشاهد الملك” محمد زهير الصديق، الذي يقال ان كلاً من مروان حمادة وفارس خشان هم من جنده في هذه المهمة، حيث كانت شهادته المستند الذي تم على أساسه حجز الضباط وتوقيفهم، اذ اعلن في افادة كاذبة، ان الضباط الاربعة مع ضباط سوريين ومن بينهم آصف شوكت وماهر الاسد، اجتمعوا في شقة في الضاحية الجنوبية، وكان هو يتردد اليها، وشارك في الاجتماعات فيها، وتم خلالها التخطيط والتنفيذ لاغتيال الحريري، وقد تم تجهيز السيارة التي انفجرت بموكبه في منطقة الزبداني في سوريا ونقلت الى مركز امني سوري في حمانا، الى ان انفجرت بسيارة الحريري.
هذه الشهادة كانت تسربت الى جريدة ”السياسة” الكويتية، بعد ايام على الجريمة مع الاسماء وقبل تشكيل لجنة التحقيق الدولية، وقبل ارسال المحقق فيتزجيرالد، حيث قامت غرفة سوداء شكلت من سياسيين وامنيين واعلاميين لبنانيين في لبنان والخارج، لتوجيه التحقيق والاتهامات نحو سوريا ومن حالفها في لبنان، ونجحت الخطة في بداياتها بتضليل الرأي العام اللبناني والعربي والدولي، للامساك بالسلطة في لبنان، وهو ما حصل، اذ تم وضع اليد على مجلس النواب والحكومة، والاجهزة الامنية والقضاء، وبدأت فبركة الروايات حول مشاركة سياسيين في الجريمة، وبوشر باستدعاء شخصيات الى التحقيق وتم خلق اجواء من الرعب والخوف، وتمكن فرع المعلومات التابع لقوى الامن الداخلي من السيطرة على كل الاجهزة الامنية، وتم تعطيل دور الجيش ومخابراته، حيث حقق الانقلاب غايته الامنية والقضائية، لكنه لم يحقق اهدافه السياسية، وهو نزع سلاح المقاومة وهو الاساس في كل ما جرى، وفي تدبير اغتيال الحريري، الذي اكد في لقاءات مع الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، انه لن يمد يده على سلاح المقاومة مهما كلفه هذا الامر غالياً، وهذا ما حصل، اذ ان رفض الحريري الانصياع للمشروع الاميركي، كلفه حياته، حيث كشفت التقارير الاستخبارية، ان المخابرات الاميركية وبتوجيه من نائب الرئيس الاميركي السابق ديك تشيني اغتالت الحريري، كما اغتالت ايلي حبيقة بالتنسيق مع المخابرات الاسرائيلية وارييل شارون، حيث كان حبيقة يتحضر للذهاب الى بلجيكا للادلاء بمعلومات حول مجزرة صبرا وشاتيلا المتورط فيها شارون اثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢.
لم تتوصل تحقيقات اللجنة الدولية الخاصة باغتيال الحريري الى ادلة دامغة تشير الى تورط ضباط لبنانيين سوريين في جريمة الحريري، حيث استمعت اللجنة الى افادات ضباط سوريين ولم توقفهم، في حين انها اوقفت الضباط اللبنانيين الاربعة بناء لتوصية ميليس الذي تبين انه كان مأجوراً لدى ”تيار المستقبل”، وقبل شهادة الصديق وبعده هسام هسام وميشال جرجورة وغيرهم، وكل هؤلاء اكدوا ان شهاداتهم كانت كاذبة، ولم تتم مواجهتهم باي من الضباط الذين تم احتجازهم سياسياً، حيث لم يصدر اي قرار اتهامي بحقهم، وبقيت ملفاتهم خالية من اية ادلة تدينهم، وكان القرار السياسي يمنع اطلاق سراحهم، حيث كان سعد الحريري ووليد جنبلاط وحلفاؤهما في ”١٤ آذار”، يصرون على ابقائهم في السجن، كي لا يشكل اخراجهم ضربة لمشروعهم السياسي، حيث استغلوا القرارات الدولية، وتشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، من اجل انتظار قرارها، بالرغم من توصية المحققين الدوليين سيرج برامرتز ودانيال بيلمار الى القضاء اللبناني بضرورة اطلاق سراح الضباط، الا ان المدعي العام سعيد ميرزا مع ارتباطه السياسي بالحريري، كان يماطل ويرفض مع المحقق العدلي صقر صقر، قبول طلبات وكلاء الدفاع عن الضباط، باخلاء سبيلهم الذي كان القاضي الياس عيد توصل اليه، وفي اللحظة الاخيرة اقصي من منصبه وامتدت المماطلة الى اعلان بدء عمل المحكمة في اول اذار الماضي، وانتقال الصلاحيات والملفات اليها، التي درسها قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين ولم يقرأ فيها قرينه ضد الضباط الاربعة، فاعلن في قراره ان ”المعلومات في الوقت الحالي لا تتمتع بالصدقية لتبرير اصدار مضبطة اتهام بحق الاشخاص المحتجزي”. وادت هذه العبارة الى الاطلاق الفوري للضباط، والذي لم يقدم عليه القضاء اللبناني وكان من اختصاصه وصلاحياته ان يقوم بهذه المهمة، وهو فعلها مع موقوفين اخرين، من ابرزهم الشقيقين محمود واحمد عبد العال والشاهد جرجورة دون ان توجه اليهم اية تهمة.
لقد خضع القضاء اللبناني وتحديداً القاضيان ميرزا وصقر لقرار قوى سياسية بعدم قبولها بالافراج عن الضباط الذين سمتهم المحكمة الدولية بالمحتجزين وبرأتهم حيث شكل احتجازهم فضيحة العصر القضائية في لبنان، بالرغم من التذرع بالمادة ١٠٨ من قانون اصول المحاكمات الجزائية، حول عدم تحديد مهلة للتوقيف الاحتياطي الذي يكون مستنداً الى ادلة، وليس كما في حالة الضباط، الذين قرروا مقاضاة من حجز حريتهم، وسبب لهم الضرر والاذى، وان ميرزا وصقر سيخضعان للمساءلة والمحاسبة، وقد فتح مجلس القضاء الاعلى الباب للضباط للقيام بذلك، من خلال البيان الذي اصدره بعد اجتماعه الاستثنائي واعلن فيه ان القضاة يخضعون للمساءلة والمحاسبة، والذي تم في ظل اجواء من ردود الفعل السياسية والشعبية والاعلامية، التي دانت ممارسات ميرزا وصقر، وطالبت باقالتهما وتحرير القضاء من الاستغلال السياسي.
ان اخراج الضباط الاربعة من الاسر، وعدم ادانتهم لا بل تبرئتهم، اعاد السؤال حول من اغتال الرئيس الحريري، ولماذا ضيّع ابنه سعد الحقيقة عن اغتيال والده، وشارك مع مجموعة حوله في ذلك، وابقاه سجيناً، وتركه ميتاً بعد ان كان شهيداً وفق تعبير اللواء السيد الذي تقدم بشكوى ضد ميليس في فرنسا، وستكون المحاكمة قريبة، وسيقاضيه، كما سيقاضي كل من تورط في تجنيد الشهود الزور ضده مع زملائه، اذ بشر هؤلاء من سياسيين وامنيين واعلاميين، ان الزنزانات التي تركوها في سجن روميه، ستستقبلهم وقد انقلب السحر على الساحر وسيتم اكتشاف ان من قتل الحريري هو من ضلل التحقيق.
Leave a Reply