رغم أن القول المأثور يقول “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” إلا أننا من أكثر الناس طيشاً ومخاصمة للحكمة، وأكثر من ذلك.. قمنا بتحريف دلالة هذا القول الشائع، وصدرنا المعنى على نحو كاريكاتوري وساخر (فضلاً عن أنه خاطئ) على أساس أن المجانين عندنا غالباً ما ينطقون بالحكمة، وبشكل يفاجئنا، لدرجة أننا قد نعيد النظر في جنونهم. وبسبب من هذا.. امتلأ الكثير من مسلسلاتنا وأفلامنا ومسرحياتنا، بشخصية “المجنون” الذي يوزع الحكمة يميناً وشمالاً، بمناسبة وبدونها، وحتى زياد الرحباني لم ينجُ من هذا الفهم، ولا المخرج الفلسطيني المبدع رشيد مشهراوي في فيلم “حيفا” حيث قام الفنان محمد البكري بدور “مجنون” رائع..
والحقيقة، أن المعنى الأصيل لذلك القول لا يعني سوى الانحياز للحكمة والأخذ بها بغض النظر عن قائلها أو مطلقها: أي خذوا الحكمة ولو كان قائلها مجنوناً، لأن “الحكمة ضالة المؤمن”، كما ورد في الحديث النبوي الشريف..
والحديث عن الحكمة والمجانين، يقود بدون تعسف الى الحديث عن الديمقراطية والأميركيين، فالسائد اليوم، في خطاباتنا الثقافية والإعلامية والسياسية والجماهيرية، هو هجاء الديمقراطية على نحو هستيري، ومجنون. ولعل ما يبعث على الأسى، والتساؤل، أن “الديمقراطية” كمفردة وكمفهوم أصبحت مثيرة للحساسية، والحكة، عند الجماهير الغفيرة (أو الغفورة على حد تعبير فيلمون وهبي) ولدى النخبة أيضاً!..
العرب اليوم رافضون للديمقراطية، لأنه: انظر ماذا يفعل الأميركيون في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وموريتانيا والسودان وهيروشيما! هم رافضون بالمطلق لديمقراطية الشوكولاه والقنابل، رغم أن معظمهم لا يمانع بتذوق بعض قطع الشوكولاه إذا سنحت له الفرصة، وبعضهم يستميت للظفر ببعضها. والثقافة العربية التي قبلت لقرون عديدة “مجانينها” من دون أن تأخذ حكمتهم على محمل الجد، لم تقبل ديمقراطية الغزاة، ولا ديمقراطية الآخرين، ومن غير المنتظر أن يسود في خطابنا الثقافي قول مواز لذلك القول، من قبيل: خذوا الديمقراطية من تعاليم الغزاة والمحتلين، فالديمقراطية ضالة المواطن! إذن.. فلتنفرج أسارير الغاضب أسعد أبو خليل!..
مثقفون وإعلاميون وفنانون.. مناهضون للديمقراطية، بدءاً من الممثل العالمي عمر الشريف، ومروراً بالإعلامي فيصل القاسم، وانتهاء بالشاعر أحمد فؤاد نجم، والقائمة طويلة ومكتظة ومزدحمة، ورجال دين ينتمون الى القائمة بالطبع، هم الذين اقترح أظرفهم أن “لا إكراه في الديمقراطية” على وزن “لا إكراه في الدين”.. ألخ، ألخ، ناهيك عن أن أكثر القادة العرب باتوا يعلنون صراحة، أن “شعوبنا غير جاهزة للديمقراطية” وهم أنفسهم كانوا قد دأبوا طوال عقود تقدمية على التغني بـ”الديمقراطيات” الوطنية..
لقد نجحت “الأنظمة العربية” بعد عقود طويلة من النضال والمماطلة في تعميق الهوة بين الشعوب وبين المفاهيم التي تضمن لهم الكرامة والعدالة، وليس التقدم والرخاء، واستطاعت أخيراً أن تجعل من كلمة “الديمقراطية” كلمة مرادفة للخيانة والعمالة وضعف النفس والإيمان والرؤية. الآن، في العالم العربي لم يعد الشرطي أو رجل الأمن من يمارس القمع والتنظير الوطني والأخلاقي على المطالبين بالديمقراطية أو الحالمين بها، بل أصبح يقوم بذلك الزميل في العمل والجار والقريب والأخ.. ألخ ألخ
حسناً، لقد انتهينا من الديمقراطية، والدور الآن على “الحرية” ومن غير المنتظر، مرة أخرى، أن نشتق قولاً جديداً في منظومتنا الحالية، من قبيل: “تعلموا الحرية حتى من جلاديكم”.
الأمور معكوسة: من يقول بالحكمة مجنون، ومن يقول بالحرية عبد!
ألخ ألخ..
Leave a Reply