قرار ترامب .. ابحث عن ابن سلمان!
لم يكن قرار دونالد ترامب بشأن الاعتراف بمدينة القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني مفاجئاً بكل معنى الكلمة. الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة كان يملك ما يكفي من عوامل لخرق الخطوط الحُمر التي توقّف عنها أسلافه، منذ قرار هاري ترومان الاعتراف بدولة إسرائيل.
عوامل الدفع التي جعلت ترامب يقدم على تلك الخطوة الخطيرة، كثيرة ومتعددة المستويات. في الداخل، لا شك في أن قراراً صهيونياً بامتياز يؤمّن حماية سياسية مطلقة لسيد البيت الأبيض، المحاصر بالمنظومة السياسية–العسكرية الحاكمة، وبإجراءات الكونغرس والمحقق الفدرالي بشأن الدور الروسي المفترض في حملته الانتخابية، من خلال دغدغة مشاعر اللوبي اليهودي، وامتداداته الصهيو–أميركية في الـ«استابليشمانت» الأميركية.
وأمّا في الخارج، فلا مكابح كان يمكنها وقف القرار، فالعرب منقسمون بين صراعاتهم الداخلية والبينية، من الخليج إلى المحيط، ورد الفعل الشعبي المتوقع قد لا يتجاوز صور وعبارات التنديد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو في أفضل الأحوال خروج بعض المسيرات التضامنية، التي سرعان ما ستغرق مجدداً في هموم اليوميات العربية السود.
هذا الموقف العربي، ربما ينطبق على باقي دول العالم التي لن يتجاوز رد فعلها على القرار الأميركي بشأن القدس، سوى بيانات التحذير من التداعيات السلبية لتلك الخطوة على عملية السلام في الشرق الأوسط، مع التشديد، بالطبع، على ضرورة استئناف مفاوضات التسوية التي ستكون بطبيعة الحال، بشروط إسرائيلية بحتة، يعززها تغيير الحقائق على أرض الواقع، لا سيما في الملف الأكثر حساسية في عملية التفاوض، وهو القدس.
عجز وتآمر
إعلان ترامب يوم السادس من ديسمبر الجاري الذي تضمن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل والبدء في إجراءات نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة لم يفاجئ سوى من كان يحاول أن يرى المشهد بعين واحدة، فقرار ترامب كان متخذا فعلياً منذ شهر حزيران (يونيو) الماضي لكنه اضطر آنذاك إلى إرجائه ستة أشهر أخرى إلى أن يتم ترتيب الوضع عربياً (خليجياً ومصرياً وأردنياً) لضمان ردود أفعال في حدها الأدنى على القرار.
لكنّ الأخطر في الموقف العربي، هو في انتقال بعضه من العجز والتخاذل، إلى التآمر الواضح، الذي بدأت تتكشف معالمه، حتى قبل الإعلان المدوي لترامب عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المحتلة.
وبعيداً عن «العنتريات» العربية، التي بدأت تتبدّى في بيانات الاستنكار والتنديد التي لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، والتي ستبلغ ذروتها في اجتماع تقليدي مفترض للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي؛ وبعيداً أيضاً عن النقاش المتوقع داخل مجلس الأمن الدولي، والذي قد يُنتج، في سقفه الأعلى، بياناً باهتاً، كالعادة، فإنّ خطوة ترامب تفتح المجال أمام فصل جديد في القضية الفلسطينية، قد يكون الأكثر خطورة منذ قرار التقسيم الصادر في العام 1947.
ولعل خطورة هذا القرار تكمن في كونه يفرض عملياً شروط التسوية السلمية على فلسطين حتى قبل طرحه رسمياً في جولات التفاوض المستقبلية، والتي لن يتأخر الإعلان عنها في المدى المنظور، طالما أن لا شيء يشي برد فعل عربي أو دولي جدّي، من شأنه أن يوقف الاندفاعة الهوجاء لإدارة ترامب.
السيناريو الأكثر ترجيحاً أن يقارب المجتمع الدولي قرار ترامب بتحفيز الفلسطينيين والإسرائيليين على الجلوس حول طاولة المفاوضات لتحريك عملية التسوية المعطّلة منذ سنوات، ولن يتأخر الوقت كثيراً حتى يبدأ التعامل مع الخطوة الأميركية باعتبارها «صدمة إيجابية» للمضي قدماً بالحل السلمي، في إطار مبادرة جديدة، ستستنفر من أجلها الدبلوماسية الدولية، وسرعان ما سيتلقفها العرب بالترحيب الحار.
تصفية القضية
هذا السيناريو يؤكده رد فعل محمود عباس على خطاب ترامب. رئيس السلطة الفلسطينية «تريّث» قليلاً في إلقاء كلمة الرد على دونالد ترامب، إلى حين الاتصال بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر تميم بن حمد.
ووفقاً لما سرّب، فإنّ الكلمة كانت ستتجاوز عبارات التنديد المعروفة، باتجاه التلويح بخطوات تصعيدية، تصل إلى إمكانية التهديد بحل السلطة الفلسطينية، وبالتالي سقوط مسار أوسلو، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات.
لكن ما حصل في الواقع أن لغة الخطاب عكست الموقف العربي العام، بكل ما تضمنه من عبارات من قبيل اعتبار خطوة ترامب «مخالفة للقرارات والاتفاقات الدولية والثنائية»، و«انسحاباً من رعاية عملية السلام»، و«مكافأة لإسرئيل»، و«تشجيعاً لها على مواصلة سياسة الاحتلال والاستيطان»… الخ.
لكنّ الأخطر مما سبق، أن الحراك السياسي الذي سبق إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، سبقته تسريبات صحافية حول «صفقة القرن»، تشي بأن الخطوة تأتي في سياق ترتيبات لتصفية القضية الفلسطينية، ضمن خطة سعودية شاملة بتوقيع محمد بن سلمان، في موازاة خطة إماراتية–مصرية فرعية، ومرتبطة بالمصالحة الفلسطينية، على النحو الذي يجعلها سنداً للخطة السعودية.
الخطة السعودية كشفت بنودها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، نقلاً عن مصادر رسمية فلسطينية وعربية وأوروبية، ومفادها أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اقترح على الرئيس الفلسطيني، محمود عباس إقامة دولة فلسطينية مقسمة إلى عدد من المناطق ذات حكم ذاتي، على أن تبقى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة «ملكاً» لإسرائيل، وبحيث تكون بلدة أبو ديس، وليس القدس الشرقية المحتلة عاصمة للدولة المقترحة، مع التشديد على أن هذا الحل يستوجب التخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
ووفقاً لـ«نيويورك تايمز»، فإنّ «الكثير من المسؤولين في واشنطن والشرق الأوسط تفاجأوا من الاقتراح، خاصة أن ولي العهد السعودي هو الذي طرحه على عباس، واعتبروا أنه يحاول تقديم خدمة للرئيس الأميركي أو أنه يعمل لديه متطوعاً».
ونقلت الصحيفة عن مصادر وصفتها بأنها مطلعة على تفاصيل المحادثة بين ابن سلمان وعباس خلال زيارة الأخير المفاجئة إلى الرياض، الشهر الماضي، قولهم إن ابن سلمان عرض على عباس أموالا طائلة للسلطة الفلسطينية، وله شخصياً، كما هدد بن سلمان عباس بدفعه إلى الاستقالة في حال رفض هذا العرض!
هذا التهديد يتلاقى مع الخطة الإماراتية – المصرية التي بدأ تطبيقها بالفعل منذ أشهر، والتي كشفت عنها صحيفة «هآرتس»، والهدف منها وضع القيادي المفصول من حركة «فتح» محمد دحلان على رأس حكومة الوحدة الوطنية في قطاع غزة، ورفع معظم الحصار عن القطاع من قبل مصر وإسرائيل.
وبحسب تسفي بارئيل الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية في «هآرتس»، فإنه في «الوقت الذي تحصي فيه إسرائيل ساعات الكهرباء المخصصة يوميا لمليوني فلسطيني في غزة، يبدو أن اتفاقا يجري إنضاجه بين عدة أطراف إقليمية وإسرائيل ومصر وحماس، لتنصيب دحلان رئيساً لحكومة فلسطينية بغزة، ورفع الحصار عنها، وإقامة محطة كهرباء جديدة في رفح المصرية، وبناء الميناء فيما بعد»، مضيفاً أنه «في حال نجحت هذه الخطة السياسية فسيكون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الزاوية المظلمة، وسيأخذ دحلان مكانه، سواء عبر الانتخابات أو الاعتراف الفعلي به».
الورقة الإسرائيلية
وبالرغم من النفي السعودي لهذه التسريبات، إلا أن ما قاله جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، في كلمته أمام منتدى «صابان»، يشي بالكثير، فوفقاً لزوج أيفانكا المعروف بقربه من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنّ خطوة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل «ليست سوى بداية لتنفيذ خطة أكبر، تحدث عنها ترامب في عدة مناسبات ووصفها بالصفقة النهائية، وذلك من أجل حل قضية الشرق الأوسط، التي بدونها لا يمكن التركيز على قضايا أخرى، مثل وضع حد لطموحات إيران النووية، ومواجهة الإيديولوجيات المتطرفة».
وأضاف «عليكم أن تركزوا على حل القضية الكبرى. إن الحركة الديناميكية الإقليمية تلعب دوراً كبيراً في ما نعتبره فرصاً، لأن عدداً كبيراً من هذه البلدان يسعى إلى فرص اقتصادية والسلام لشعوبها»، في إشارة واضحة إلى السعودية، المتمثلة بولي العهد محمد بن سلمان الذي تربطه بكوشنر أيضاً علاقات متينة، فولي العهد المتهوّر يحاول القيام بـما يسميه «إصلاحات فكرية واقتصادية» في السعودية، ولم تعد خافية محاولاته الاقتراب أكثر من إسرائيل لمواجهة إيران.
من هنا، تبدو الفرصة الإسرائيلية الورقة الأخيرة التي يمكن أن يراهن عليها محمد بن سلمان الأخيرة، بعد الهزائم الاستراتيجية التي تكبّدها مؤخراً، ابتداءاً من العراق وسوريا، حيث خرجت السعودية من المعادلة تماماً، وصولاً إلى فشل الانقلابَين اللذين خطط لهما في اليمن، مع فتنة علي عبد الله صالح، وفي لبنان، بعد تراجع سعد الحريري عن استقالته.
Leave a Reply