اكتشاف ثلاث شبكات استخبارية إسرائيلية يؤكد احتمال ضلوعها بالجريمة
اغتيال كمال مدحت رسالة متعددة الأهداف والإتجاهات
في آخر لقاءاته مع مقربين منه، كان اللواء كمال مدحت المعروف بكمال ناجي، يبوح لهم أنه معرّض للاغتيال، وقد أبلغ الأجهزة الأمنية اللبنانية بذلك، التي نصحته بالتقليل من تنقلاته، لكنه لم يفعل، الى ان وقع ما كان يعرفه وينتظره، فسقط شهيداً، بانفجار عبوة ناسفة على جانب الطريق قرب مخيم المية والمية، الذي زاره معزياً بعنصرين من حركة “فتح” قضيا باشتباك فردي، حرص مدحت على تطويقه، والدعوة الى وأد الفتنة بين الفلسطينيين، حيث لعب دوراً رئيسياً في العمل لها، على مستويين داخل حركة “فتح” التي انتمى اليها قبل أربعين عاماً وهو في سن السادسة عشرة مقاتلاً في صفوفها، وبين “فتح” ومنظمات فلسطينية أخرى، لا سيما حركة “حماس” وأخرى إسلامية أصولية.
ويعتبر استهداف مدحت الذي رقي أخيراً الى رتبة لواء داخل تنظيم “فتح” العسكري، أول مسؤول فلسطيني بهذا المستوى يتعرض للاغتيال في لبنان منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية في العام ١٩٨٢ من بيروت بعد الغزو الصهيوني، وقد سبق أن اغتيل جهاد جبريل نجل الأمين العام للجبهة الشعبية-القيادة العامة أحمد جبريل في بيروت بتفجير سيارته في العام ٢٠٠٢، واستشهد الشقيقان نضال ومحمود مجذوب في صيدا، بتفجير سيارتهما ايضاً، وتبين لاحقاً من التحقيقات الامنية والقضائية كشفت عن ان الاستخبارات الاسرائيلية تقف وراء هذه العمليات باعتراف العميل الاسرائيلي محمود رافع الذي اعتقلته مديرية المخابرات في الجيش في حزيران من العام ٢٠٠٦، وبعد أقل من شهر على مقتل الشقيقين مجذوب، حيث اعترف رافع بأنه وضع العبوات الناسفة في سيارة آل مجذوب وفجّرها، مع رفيق له يدعى حسين خطاب وهو فلسطيني من مخيم عين الحلوة فر من لبنان، وقد تشاركا بأعمال إرهابية ضد عناصر من “حزب الله”، إضافة الى نشاطهما التجسسي.
فاحتمال أن يكون العدو الإسرائيلي وراء اغتيال اللواء مدحت قائم، وان التحقيقات ستكشف ذلك، مع استمرار اكتشاف شبكات الاستخبارات الاسرائيلية، وكان آخرها شبكة مروان فقيه في النبطية قبل ثلاثة اشهر، والدور الذي أداه مع آخرين غيره في تزويد إسرائيل بالمعلومات عن قيادات “حزب الله” وكوادره ومنازلهم ومراكزهم، وتحديداً في أثناء العدوان الاسرائيلي، يشير الى الدور الناشط “للموساد الاسرائيلي” في لبنان، وزرعه للعديد من الشبكات والمخبرين، وقد سبق للاجهزة الامنية ان اعتقلت شبكة الأخوين الجراح في البقاع، وهما لبنانيان من المنتمين الى حركة “فتح الانتفاضة”، وقد جنّدتهما المخابرات الاسرائيلية، في الاجتياح الصهيوني للبنان في العام ١٩٨٢، الى ان اكتُشفا في العام ٢٠٠٨، واعترفا بدورهما التجسسي على المقاومة، وتحديداً مراقبة نقل السلاح اليها عبر الحدود اللبنانية-السورية.
فاكتشاف ثلاث شبكات كبرى في خلال ثلاث سنوات تعمل مع المخابرات الاسرائيلية، وتنفذ مهماتها، يشير الى مدى التوغل الصهيوني في لبنان، وانكشاف ساحته امام اجهزة الامن الخارجية، وان العين الساهرة للمقاومة ورصدها تحركات عناصر مشبوهة، أدت بالتنسيق مع مديرية المخابرات في الجيش اللبناني الى القبض على العملاء الذي تمكنوا من تنفيذ أعمال إرهابية، وقد تكون جريمة اغتيال مساعد ممثل سفارة فلسطين في لبنان، من صنع أجهزة مخابراتية إسرائيلية، لأن الشخص المستهدف هو صيد ثمين لإسرائيل، فهو من الضباط البارزين في “فتح” وله دور بارز في المقاومة الفلسطينية منذ الستينيات، وشغل مواقع مسؤولة أمنية وعسكرية، وكان من العسكريين المقربين من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتولى مسؤولية قائد حراسته، واعتمد ممثلاً شخصياً له في مهمات سياسية ودبلوماسية، ولم يقطع علاقته مع سوريا والقيادات فيها، وفي أوجه الصراع بين عرفات والمسؤولين السوريين، حول توجهات سياسية معينة بشأن المسألة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
لذلك كان مدحت يشعر كما غيره من قادة المقاومة في الميدان، بأنه مستهدف من العدو الاسرائيلي وعملائه، الذي يستغل التناقضات الفلسطينية-الفلسطينية، ليدخل منها في التوقيت المناسب، ليغتال من يشاء، ولإبعاد أصابع الاتهام عنه بحيث جاء مقتل الدبلوماسي والعسكري والأكاديمي الفلسطيني ، في ظل صراعات دموية في مخيمي عين الحلوة والمية ومية، وكان آخرها الاشتباكات التي حصلت بين “فتح” و”حماس” في مخيم المية ومية، والتصفيات بين “فتح” و”جند الشام” و”عصبة الأنصار”، إضافة الى التباين والصراعات داخل حركة “فتح” نفسها، والانقسامات السياسية بين تياراتها، ومحاولات الاستقطاب التي كان يقوم بها مسؤولون فيها، بين كوادر وصفوف الحركة، والتي تصاعدت مع الإعلان عن انعقاد مؤتمر “فتح” الذي تأجل بسبب الخلافات السياسية والتنظيمية، التي لم تغب عن “الفتحاويين” في مخيمات لبنان.
ففي ظل هذه الأجواء والتطورات وقعت جريمة اغتيال اللواء مدحت، وذهبت التكهنات والاحتمالات في كل الاتجاهات، والإشارة الأولى تتجه دائماً نحو إسرائيل صاحبة التاريخ الدموي، والمسلسل الإرهابي في استهداف قادة المقاومة الفلسطينية، وان المسؤولين الفلسطينيين في لبنان، وجهوا أصابع الاتهام نحو العدو الاسرائيلي المستفيد الوحيد منها، وانه بذلك وجه رسائل عدة، منها اغتياله لقائد فلسطيني مقاوم، لا يسير في خط التسوية السلمية، وله مواقف مناهضة لعملية السلام مع إسرائيل، انطلاقاً من تشبثه بالمبادئ الأساسية وهي حق العودة للفلسطينيين واعتبار القدس عاصمة الدولة الفلسطينية ورفض بناء المستوطنات اليهودية.
وفي رسالة الاغتيال، تعميق للخلافات الفلسطينية وزرع الشكوك داخل صفوف المنظمات والقوى الفلسطينية، وإذكاء نار الفتنة في ما بينها، وان من أبرز أهداف من قام بالجريمة، هو إشعال حرب أهلية فلسطينية لأنها وقعت على تخوم المخيمين الأكبر في لبنان للفسطينيين.
وقد لعب مدحت دوراً فعالاً ورئيسياً في جمع صفوف الفلسطينيين، وتحذيرهم من الاقتتال الداخلي، وتولى مهمة ضبط الوضع الامني في مخيمات الشتات، ونجح في عدم جرها الى حروب عبثية، حيث كان يحضّر لمخيم عين الحلوة، ما تم تحضيره لمخيم نهر البارد، واتخاذه قاعدة للصدام مع الجيش اللبناني، وإقامة “إمارة إسلامية” فيه، وقد تنبه مدحت مع ممثل منظمة التحرير في لبنان عباس زكي الى نقل الحرب الى مخيم عين الحلوة، وقد نجحا بالتعاون مع كل الفصائل الفلسطينية، في منع تكرار ما جرى في البارد، في عين الحلوة، بعدما أعلن أن عبد الرحمن عوض عُين أميراً لـ”فتح الإسلام” في لبنان، خلفاً لشاكر العبسي، مما استنفر حركة “فتح” التي تعتبر التنظيم الأقوى في مخيم عين الحلوة، وتحركت باتجاه محاصرة هذا التنظيم بالتنسيق مع الجيش اللبناني، ولعب مدحت دوراً رئيسياً في ذلك، وأحبط محاولة تدمير مخيم ثان في لبنان بعد نهر البارد الذي تولى من الجانب الفلسطيني رئاسة لجنة إعماره وكان موضع ثقة الجميع، للدور التوفيقي الذي كان يقوم به، وهو ما مكّنه من أن يحظى بثقة الجميع، ووصف بالفلسطيني المعتدل، ومارس نهجاً مع زميله عباس زكي، لتظهير صورة مختلفة عن الفلسطينيين في لبنان بحيث جرت محاولات لتصويرهم وكأن مخيماتهم هي مراكز للإرهاب والتطرف، وسلاحهم موجه للتخريب على الأمن اللبناني، ونقل الرجلان من موقعهما في سفارة فلسطين صورة أخرى واعتذرا من اللبنانيين عن ممارسات مدانة في مراحل سابقة حصلت في الحرب الأهلية، لن يعود أحد اليها في عملية نقد ذاتي جريئة لممارسات خاطئة قام بها فلسطينيون كمنظمات أو أفراد.
هذا النهج الذي اتبعه اللواء مدحت وضعه في مكان قريب من كل القوى السياسية والحزبية اللبنانية والفلسطينية، والمرجعيات الرسمية والدينية، بحيث خلع بزة العسكري ولبس ثياب الدبلوماسي، وكان يظهر بمظهر الرجل الأنيق ويطل على وسائل الإعلام محدثاً لبقاً ومثقفاً مطلعاً ومحللاً سياسياً واستراتيجياً جذب اليه من استمع له يدافع عن قضيته حيث امتاز بلغة عقلانية وموضوعية.
لقد شكل اغتيال القائد الفلسطيني حدثاً بارزاً، وهو تزامن مع إنهاء وزراء الداخلية العرب مؤتمرهم في بيروت، والذي ركزّ على موضوع مكافحة الإرهاب، فكانت الجريمة رسالة مباشرة ايضاً الى هذا المؤتمر بأن قرارته لن تمنع الأعمال الإرهابية، كما أن مقتل اللواء مدحت جاء لينسف الحوار الفلسطيني-الفلسطيني، كما لم يوفر المصالحات العربية-العربية، وأجواء التقارب العربي-العربي، الذي تقدم أخيراً لتنعقد القمة العربية في الدوحة، في ظله.
Leave a Reply