لم تلقَ مقولة “قتل الأب” رواجاً في الثقافة العربية، فضلاً عن أن تصريفها في المجالات الإبداعية.. شابه الكثير من سوء الفهم والتأويل. إذ تمت مناقشة هذه المقولة من زواية أخلاقية بحتة تتصل مباشرة بمسألة النسب، أي.. بالأب الحقيقي، البيولوجي. وبهذا المعنى يمكن فهم الحساسية التي أحاطت بهذه المسألة في مجتمعات مايزال فيها “النسب” أحد مفاخر الأسر والأفراد.
وكان المقصود بـ”قتل الأب”، هو التخفف من إرث الوصاية، والاتجاه صوب المغامرة، وكتابة السيرة الذاتية الشخصية، دون الاتكاء على بطولات الآباء والأجداد. وفشلت هذه الخطة بالطبع، وتابعنا ترديد وصلة الطرب التي أداها أحد الشعراء، والذي قال: “أن الفتى من لا يقول هأنذا/إن الفتى من يقول كان أبي”!.
اتصالاً بالموضوع، يعرف العرب المقيمون في الولايات المتحدة، أن الأميركيين يملكون أسماء تدعى middle name، وهي ليست أسماء آبائهم بالضرورة، ونحن الذين لا نملك هذا النوع من الأسماء، عندما نسأل عن “الميدل نايم” خاصتنا، نستخدم أسماء آبائنا. وهذا الأمر يعكس بشكل من الأشكال علاقة الأبناء بالآباء في الثقافتين العربية والأميركية. فاسم الأب في الثقافة العربية لا يعكس مفهوم النسب فقط، بل يكاد يعكس ميكانزمات وآليات الثقافة كلها. بمعنى.. أن الماضي والمنجز والجذر، هو الأصل، والحاضر والأغصان والتطلعات، هي الفروع. وبهذا المعنى فقط.. يمكن أن نفهم لماذا ثارت ثائرة الكثيرين على الكاتبة المصرية نوال السعداوي حين اقترحت بأنه يحق للأبناء أن يختاروا اللحاق بنسب أمهاتهم.. إلى حد اتهامها بالجنون والهرطقة.
“الأب” أيضا هو رمز للسلطة بكل أشكالها، والوصاية بكل أنواعها، الدينية والسياسية والاجتماعية، وهو الذي يتحكم بمصير أبنائه في كل تفاصيل حياتهم، (وقد يحرمهم من الميراث إذا شاء). في المستوى الديني، يظهر رجل الدين.. كأب، ويمارس حضوره على جميع الآخرين كأب جليل وموقر، وإذا كان هذا الأمر غير واضح في الإسلام، فهو شديد الوضوح في المسيحية، لدرجة حضور مفردة “الأب” كلقب مصاحب لرجل الدين.
في السياسة والوطنية، القائد هو.. أبو المواطنين جميعهم، ومن غير النافر في الأنظمة الديكتاتورية العربية، حضور ذلك الكم الهائل من الشعارات التي تمجد “الأب القائد” و”الأب المناضل” ألخ، لذلك يبدو التبجيل والاحترام والافتخار بالنسب (بالقائد) من مواصفات الأدب (والوطنية)، والأولاد العاقون في هذه الحالة، مذمومون، منبوذون، ومغضوب عليهم.
وكل شخص في موقع المسؤولية.. هو أب، ابتداء من “أبوي العمدة” في المسلسلات المصرية، وصولا إلى “الريّس” الذي هو “أبونا كُلاتنا”.. ولذلك من الطبيعي أن يغضب المصريون من “العمدة السوري” جمال سليمان، مع أن شيخ الغفر بسطاويسي مازال مصرياً، ومن الممثل فاروق، الذي لعب دور “الملك تيم حسن”. وليس غريبا في هذا السياق أن يقوم أحد أعضاء مجلس الشعب المصري برفع دعوى قضائية على القائمين على أمور الدراما المصرية الذين سمحوا للآخرين (الممثلين السوريين) أن يهددوا المصريين في عقر دارهم. فالمسألة في جوهرها حرب على “النسب” و”العصب” ومن غير المعقول أن يأتي واحد من آخر الدنيا ويصبح أباً لعشرات “الصعايدة” طوال ثلاثين حلقة رمضانية. ومن غير المنتظر أيضا.. أن يقوم “أبوي العمدة جمال سليمان” في نهاية المسلسل، في أي جزء قادم، أن يقوم بالاعتراف الدرامي ذاته الذي امتلأت به المسلسلات المصرية: “أنا مش أبوك.. يا أحمد!”.
وبسبب الثقافة الدينية، يؤمن المسلمون أن الله سينادي على البشر بأسماء أمهاتهم يوم القيامة، ستراً على الفضائح.. مع أنه يوم (تذهل فيه المرضعة عما أرضعت)، حيث سينادى على كل واحد منا (يا ابن فلانة!)، وقد نصاب بالارتباك والحيرة.. نحن الذين دأبنا في حياتنا على الانتساب إلى آباء كثيرين، بمل إرادتنا!
Leave a Reply