“حرب تموز” أعلنت عودة النفوذ الروسي.. وصمود دمشق يرسخه
دخلت الأزمة السورية في أواخر النصف الأول من حزيران (يونيو) مرحلة جديدة: روسيا متمسكة بسوريا وبالأسد تحديداً، وأميركا عاجزة عن إضعاف الموقف الروسي. فجأة تحولت سوريا الى أهم نقطة صراع في العالم. لا روسيا قادرة على التخلي عنها، ولا أميركا قادرة على إسقاطها. هكذا أعادت دمشق التوازن الاستراتيجي الى العالم:
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، دخل العالم حقبة “أحادية القطب”، فصالت واشنطن وجالت في كافة أصقاع الأرض.. قسّمت يوغوسلافيا ثم أسقطت نظام بلغراد وقسمت المقسم، ودمرت العراق، ثم غزته، وأخضعت دول أوروبا الشرقية، ثم دعمت “الثورات الملونة” في دول عديدة لتنقل الأنظمة من الصف الروسي الى مقلبها، مثل قرغيزستان وجورجيا وأوكرانيا ولبنان وغيرها. وفي الوقت الذي كان فيه فلاديمير بوتين منصرفاً لإعادة تشييد الإمبراطورية الروسية من الداخل تفاجأ في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤ بأن النفوذ الأميركي تمدد وصار على عتبة موسكو بـ”ثورة برتقالية” أسقطت كييف، وباتت تشكل تهديداً استراتيجياً لموسكو.
ورغم أن “ثورة وردية” قطفت جورجيا عام ٢٠٠٣، وأخرى “بنفسجية” نشلت قرغيزستان شتاء ٢٠٠٥، إلا أن موسكو لم تشعر بالخطر الاستراتيجي علىها إلا بعد فقدان أوكرانيا ما دفع بوتين الى استعمال أقوى سلاح استراتيجي في حوذته، وهو الغاز: تأخذون أوكرانيا.. لا غاز لأوروبا.
ركعت أوروبا… رضخت أميركا.. فشلت “الثورة البرتقالية”، وزعيمتها تقبع اليوم في السجن.
سلاح الغاز.. لحماية روسيا والنهوض بها
منذ توليه الحكم، أدرك بوتين الأهمية الاستراتيجية للغاز، فبدأ عملية توظيفه للنهوض بالدولة الروسية عبر تأميمه تحت اسم ”غاز بروم”، التي أصبحت سريعاً أكبر شركة في روسيا وأكبر مستخرج للغاز في العالم.
ويكمن الثقل الاستراتيجي للغاز الروسي بأنه يحتكر تقريباً السوق الأوروبية لأنه الوحيد الذي يصل القارة العجوز عبر الأنابيب الموصولة باحتياطات استراتيجية ضخمة، مما أعطى بوتين سلاحاً مكّنه من كبح التوسع الأميركي في الوقت المناسب لينتشل بذلك موسكو من خطة محاصرتها وإفقادها كامل أوراقها الاستراتيجية.
هذا لا يعني أن واشنطن كانت ساهية عن خطة بوتين للنهوض بروسيا من جديد. ففي النصف الأول من التسعينات أيقن العالم أن الغاز سيصبح المصدر الأول للطاقة (اتفاقية كيوتو ١٩٩٢)، وواشنطن، كقائدة للغرب وللعالم، تدرك أن روسيا تمتلك أكبر احتياط منه وتدرك أيضاً أن عدم إيجاد بديل استراتيجي عنه (يغني أوروبا عن الحاجة الى الغاز الروسي) يعني استحالة إخضاع موسكو للغرب، وهذا ما ثبت في الصراع على أوكرانيا حيث صد بوتين الهجمة وأعلن أن روسيا لا تزال منيعة.
الخطة الأميركية لضمان التفوق الاستراتيجي
مع سقوط الاتحاد السوفياتي هزمت واشنطن موسكو لكنها لم تكن قادرة على إخضاعها استراتيجياً، بسبب الترسانة الصاروخية الروسية والغاز الروسي المتحكم برقبة الأوروبيين، فبدأت واشنطن بعدّ العدة لضمان تفوقها الاستراتيجي وضمان استمرارية تفردها في قيادة العالم لعقود قادمة.
الخطة الأميركية استندت الى مسارين أساسيين:
الأول، قضم أوروبا الشرقية ونشر الدرع الصاروخي فيها وصولا الى تركيا بهدف شلّ الترسانة الصاروخية الروسية استراتيجياً.
أما الثاني، فهو كسر الاحتكار الروسي لمصادر الطاقة الاستراتيجية عبر جر احتياطات استراتيجية أخرى (الغاز والنفط العربيين) عبر أنابيب الى العمق الأوروبي.
وبتحقيق هذين الهدفين كانت واشنطن ستتمكن من تجريد روسيا من قوة الردع الاستراتيجية لديها وتواصل سياسات الهيمنة على العالم.
على المسار الأول باشر “الناتو” بنشر درعه الصاروخي في ظل توسع أميركي في مناطق النفوذ التقليدي للروس في أوروبا الشرقية وقرغيزستان (آسيا الوسطى) وجورجيا (القوقاز) بعد أن أخضع بالقوة “دولا مارقة”، حسب القاموس الغربي، مثل يوغوسلافيا والعراق.
أما على المسار الثاني، بدأت واشنطن، منذ أن أدركت أهمية الغاز الروسي، تعمل على تأمين مصادر بديلة عنه وجرها الى أوروبا لإفقاد الغاز الروسي ثقله الاستراتيجي وتحويله الى مجرد سلعة، عبر تعويضه بغاز العرب (من قطر وشمال إفريقيا والحقل الجديد المشترك بين لبنان وسوريا وقبرص والكيان الصهيوني)، وهو ما يحتاج الى خطة استراتيجية معقدة ليصل الى أوروبا عبر الأنابيب المؤمنة استراتيجياً (الآمنة على المدى البعيد).
قررت واشنطن أن تركز خطتها على فتح المعبر الشرقي (البوابة التركية) لأنها بذلك تضرب “عصفورين استراتيجيين” بحجر واحد: الغاز باحتياطيات الخليج الضخمة من جهة وأمن وتفوق إسرائيل من جهة أخرى. فأعادت واشنطن ترسيم منطقة البلقان (عبر ما عرف بحروب البلقان) لتمهيد الطريق أمام الأنابيب الى قلب أوروبا الغربية (انظر الساحل الكرواتي)، قبل أن تتوجه للمنطقة العربية لتأمين مصادر الطاقة فيها من غاز ونفط، وجرها الى أوروبا عبر توفير الممرات الاستراتيجية الآمنة لخطوط الأنابيب.
لكن الأميركيين كانوا يعلمون أن مهمتهم في المنطقة العربية لن تكون سهلة، خاصة بوجود إسرائيل، العبء الاستراتيجي الأكبر على واشنطن. فأمن إسرائيل وتفوقها هدف استراتيجي غربي ثابت لا يمكن لواشنطن أن تتجاهله في أي تحرك تقدم عليه في المنطقة، مما ساهم بشكل أساسي في تكبيل قدرتها في الإسراع بتأمين مصادر الطاقة ووصلها بالقارة العجوز قبل استعادة الإمبراطورية الروسية لعافيتها.
وقد شكل تحرير جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠، ونتائج “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦، وإجهاض “ثورة ١٤ آذار” التي انطلقت في العام ٢٠٠٥، وفشلت في تعطيل سلاح المقاومة في أيار (مايو) من العام ٢٠٠٨، ونتائج “حرب غزة” أواخر عام ٢٠٠٨، استحقاقات متواصلة أبقت أمن إسرائيل على رأس اهتمامات واشنطن وأجّلت إطلاق خطة تأمين الغاز الاستراتيجي لأوروبا عبر ما عرف بـ”الربيع العربي” (الذي تبين أنه نسخة مطورة عن “الثورات الملونة”). هذا التأخير أعطى روسيا الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها وتحصين بيتها الداخلي والعودة بقوة الى المسرح الدولي، عبر “الغاز” في الحالة الأوكرانية، و”تكنولوجيا الصواريخ” في “حرب تموز” في لبنان.
فقد لعب صاروخ “الكورنيت” الروسي المضاد للدروع دوراً حاسماً في صد الزحف البري الإسرائيلي على لبنان، وذلك بعد أن تفاجأت تل أبيب بوجوده بحوزة “حزب الله”، وبهذه الكثافة، ما ألحق أضراراً فادحة بدبابة “الميركافا”، فخر آلة الحرب الإسرائيلية التي أحيلت الى التقاعد المبكر وأسقطت إمكانية تقدم الإسرائيليين براً الى لبنان.
انتهت “حرب تموز” لتعلن أن روسيا باتت جاهزة لصد المحاولات الأميركية لتهميش غازها، وأن أمن إسرائيل الاستراتيجي ليس مصلحة روسية لأنه يحرر الأميركيين في الشرق الأوسط ويعطيهم القدرة على تحقيق هدف تأمين الغاز العربي وجرّه الى أوروبا التي دخلت مع الولايات المتحدة في أزمة اقتصادية خانقة بدءا من العام ٢٠٠٨ ساهمت في تقويضها أكثر، في مقابل صعود طموحات موسكو الدولية وتفعيلها سريعاً بشبكة تحالفات مع القوى العالمية الصاعدة في تحالفات مثل تجمع “بريكس” الاقتصادي الذي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وتجمع “شانغهاي” الأمني الذي يضم روسيا والصين وكازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان بعد إجهاض الثورة “البنفسجية” في الأخيرة.
كل ذلك لم يؤرق الأميركيين بقدر ما فعلت عودة الدور الروسي الى الشرق الأوسط وفشل جهود إخضاع محور الممانعة وتصفية القضية الفلسطينية، الأمر الذي دق ناقوس الخطر في واشنطن والعواصم الغربية وحتم ضرورة تسريع عملية إطلاق مشروع “الربيع العربي” الذي يهدف الى التمهيد لتأمين المنطقة استراتيجياً لمد أنابيب الطاقة من الخليج وشمال إفريقيا (تونس وليبيا ومصر) وربطها بسواحل الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط التي يتقاسمها سوريا ولبنان والكيان الصهيوني لضمان تجريد الروس من سلاح الغاز الاستراتيجي.
“الربيع العربي”
تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. قدم الغرب رؤوس أنظمة دارت في فلكه لعقود، فأطيح بزين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وتم تسليم الإسلاميين الحكم على طبق من فضة في كل من تونس وطرابلس الغرب والقاهرة في إطار صفقة تضمن المصالح الاستراتيجية الأميركية (الطاقة وإسرائيل). ونجحت واشنطن في ذلك بتحييد “حماس” عن محور الممانعة كما أمسكت برقبة الإسلاميين، عبر تثبيت “ثنائية الإخوان- السلفيين”، وربطهم بالنموذج التركي وتكبيلهم باقتصاديات مدَمّرة بحاجة ملحة الى التمويل الخليجي (قطر تموّل الإخوان المسلمين والسعودية تموّل السلفيين).
أما الخليج، فقد لوحت له واشنطن بالثورتين البحرينية واليمنية و”الهلال الشيعي”، لتؤكد له أن استمرارية الأنظمة الحاكمة فيه تعني الطاعة المطلقة وأن إيران هي العدو وليست إسرائيل.
وقد نجحت واشنطن في استثارة صراع شيعي-سني في المنطقة، وذلك بعد غزو أفغانستان (٢٠٠١) وإزاحة طالبان، وغزو العراق (٢٠٠٣) والإطاحة بصدام حسين، ولاحقا عبر اغتيال الرئيس رفيق الحريري (٢٠٠٥)، مما أدى الى توسع نفوذ إيران الإقليمي وظهور برنامجها النووي وإثارة مخاوف الدول الخليجية، مثل الكويت والسعودية والبحرين، خاصة وأن هذه الدول تضم كثافة شيعية. أما قطر، صاحبة ثاني أكبر احتياط غاز في العالم، فتريد لإنتاجها أن يصل الى أوروبا عبر الأنابيب مهما كان الثمن.
كل شيء سار على ما يرام. وحقق “الربيع العربي” أهدافه بسلاسة، وأصبحت خريطة الأنابيب جاهزة لخنق الغاز الروسي. لكن كل ما تحتاجه واشنطن بعد، لإتمام مهمتها، كان رأس النظام السوري، لتنجز الخطة والمرحلة بشكل كامل وتخرج روسيا من حوض البحر الأبيض المتوسط مناطق الأنابيب الافتراضية ودفعها الى العراق وما خلفه، فتضمن بسقوط دمشق تفوق الغرب الاستراتيجي وتحرره من الغاز الروسي وتؤمن استمرارية نظام “العالم الأحادي القطب” تحت قيادتها، لعقود قادمة.
بدورها، أدركت موسكو أن سقوط سوريا يعني فقدانها لسلاح الغاز الذي كبح التوسع الغربي على حسابها وأعاد للإمبراطورية الروسية هيبتها. فأصبحت بذلك سوريا على رأس أولويات موسكو والقوى العالمية الصاعدة والطامحة الى ”عالم متعدد الأقطاب”. و”الفيتو المزدوج” الروسي- الصيني الذي استخدم مرتين في مجلس الأمن هو أمر بديهي. وكما قال الروس “سنستخدمه عشرين مرة لو اقتضى الأمر” طالما ان النظام السوري قادرٌ على الصمود.
العصا والجزرة مع روسيا
في أيار (مايو) الماضي، حاولت واشنطن تهدئة المخاوف الروسية، وتنال موافقتها على شن ضربات جوية، ولو محدودة، ضد سوريا.
فكان العرض الأميركي سخياً، وله بعد استراتيجي، وهو أن يتم وقف نشر منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية مقابل السماح بضرب سوريا، مما يحفظ قوة الردع الاستراتيجية للصواريخ الروسية.
الروس رفضوا العرض من أساسه، ولم يحضر بوتين حتى لمناقشته في منتجع “كامب ديفيد”، خلال قمة الدول الثماني التي سبقت قمة “الناتو” في شيكاغو.
وما هي إلا أيام حتى كانت المفاجأة الروسية المدوية: تجربة ناجحة لصاروخ باليستي بعيد المدى قادر على اختراق منظومة الدرع الصاروخية وحمل عشرة رؤوس نووية باعتماده على وقود صلب لا يمكن للصواريخ الدفاعية الغربية أن ترصده.
أدركت واشنطن أن استخدام “دبلوماسية الترغيب” (الجزرة) في إقناع الروس بالتخلي عن دمشق لن تجدي نفعاً، فلجأت بحلول حزيران (يونيو) الجاري، الى استخدام “دبلوماسية الترهيب” (العصا) من أجل ثني موسكو وبكين عن موقفهما من الأزمة السورية. فجالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا على مناطق متفرقة في آسيا لإثارة توتر الروس والصينيين..
وتمحورت زيارات بانيتا التي شملت أفغانستان والهند وسنغافورة وفيتنام تحت عنوانين اثنين: الأول، في إطار المساعي الأميركي لتأمين انسحاب جيوش “الناتو” العالقة في أفغانستان بعد قرار باكستان بإغلاق خطوط إمدادها عبر ميناء كراتشي، أما الثاني والأهم هو عنوان “الاستراتيجية الأميركية الجديدة” التي قال “البنتاغون” أنها ستتركز في منطقة المحيط الهادى وآسيا، التي سينتقل اليها معظم الأسطول الأميركي خلال السنوات المقبلة حتى عام 2020 لينتهي الأمر الى وجود 60 بالمئة من القطع البحرية الأميركية هناك.
لكن الرد الصيني سبق زيارة بانيتا بأسابيع، فقد قررت بكين رفع ميزانيتها العسكرية بعدة أضعاف مع التركيز على زيادة قدراتها البحرية. أما الروس فلم يكونوا معنيين بمواقف وزير الدفاع الأميركي بقدر مواقف كلينتون التي كانت أكثر صراحة بمساعيها للضغط على موسكو.
فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية من منتجع باتومي الجورجي على البحر الاسود تعهّد واشنطن في تدريب الجيش الجورجي، مؤكدة رفضها “إحتلال” روسيا لأجزاء من البلاد بعد حرب استمرت خمسة ايام بين تبليسي وموسكو في العام ٢٠٠٨.
كما قامت كلينتون بجولة على متن سفينة أبحاث في القطب الشمالي حيث تتسابق القوى الكبرى في العالم من أجل السيطرة على احتياطيات كبيرة من النفط والغاز والموارد المعدنية التي أصبحت متاحة مع انحسار رقعة الجليد القطبي. وأيضاً زارت دولا اسكندنافية إضافة الى تركيا التي تقوم بنشر منظومة الدرع الصاروخية.
لكن محاولات بانيتا-كلينتون بدورها لم تجدي نفعاً لأن ما تلوح به واشنطن ليس له قيمة استراتيجية توازي قيمة سوريا بالنسبة للروس والصينيين. وطالما أن موازين القوى على الأرض في سوريا تميل لصالح موسكو فإنها لن تفرط بفرصتها بالعودة القوية الى الشرق الأوسط عبر محور الممانعة المتماسك وحماية الثقل الاستراتيجي لغازها وتثبيت أقدامها في البحر الأبيض المتوسط.
لكن الأميركيين واقعون في مأزق حقيقي، فصمود سوريا يعني انهيار مشروع “الربيع العربي” وبالتالي فشل تحرير أوروبا من الغاز الروسي، مما يعني غياب إمكانية تجريد موسكو من قدراتها في فرض التوازن الاستراتيجي الذي يحفظ مصالحها مع حلفائها على المسرح الدولي، وزاد الطين بلة لدى واشنطن الصفعة القوية التي تلقتها بنجاح تكنولوجيا الصواريخ الروسية بالتفوق على منظومة الدرع الصاروخية الغربية. فما العمل؟
المأزق الأميركي
في سوريا يقف العالم على مفترق طرق.
وليس أمام واشنطن الآن سوى وجهتين: إما التراجع والاعتراف بعودة التوازن الاستراتيجي مع روسيا ضمن “عالم متعدد الأقطاب”، أو المضي قدماً في محاولاتها لإسقاط النظام السوري وإنقاذ مشروعها للتفوق الاستراتيجي وتثبيت “العالم الأحادي القطب”.
حتى الآن، يبدو أن الأميركيين ماضون قدماً. والتكتيك الذي ستعتمده واشنطن لقلب المعادلة يرتكز على فرض واقع جديد على الأرض السورية يضعف موقف موسكو ويجرها الى التفاوض لدفعها الى التخلي عن نظام دمشق مقابل مكتسبات في مناطق أخرى لوح بها بانيتا وكلينتون.
ولتحقيق ذلك تراهن واشنطن على عنصرين:
أولا، على فتنة مذهبية تستعر على وقع المذابح فتضعف تماسك مؤسسات النظام السياسية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية وتوسيع رقعة انتشار “الجيش السوري الحر” التابع لحلفائها الإقليميين.
وثانياً، عبر حرب نفسية ودبلوماسية تهدف الى دفع مسؤولين كبار الى الانشقاق عن النظام عبر الترويج لإمكانية تخلي موسكو عن الرئيس بشار الأسد. وهو أمر غير وارد حالياً لدى الروس، خاصة وأن التخلي عن الرئيس الذي وفّر لهم، بصموده، فرصة إعادة التوازن الاستراتيجي الى العالم سيبعث برسالة سيئة لكل حلفاء موسكو: نحن غير قادرين على حمايتكم.
وموسكو ليست في هذا الوارد على الإطلاق، فهي لا تكتفي بالدفاع عن سوريا فقط، بل عززت موقعها في شمال إفريقيا، فثبّتت النظام الجزائري والموريتاني ودعمت الانقلاب في مالي لتغلق بخطوة استباقية طريق الغاز الى إسبانيا، وهي لا تريد أن تبدي أي إشارات ضعف في حماية حلفائها.
عن سوريا
بعد النجاح الملفت “للربيع العربي” عوّل الأميركيون على أن تجرف “كرة الثلج السلمية” دمشق ونظامها فتتحقق مصالح واشنطن الاستراتيجية في المنطقة، لكن ذلك لم يتحقق، فلجأت عبر حلفائها الإقليميين الى تمويل وتسليح المعارضين وتزويدهم بأحدث وسائل الاتصال وبالمرتزقة المحترفين (مثل “بلاكووتر”). لكن “الجيش السوري الحر”، بدوره، لم يتمكن من فرض نفسه على الساحة السورية ولقي هزائم عسكرية كبيرة في إدلب وحمص أدت الى استحالة فرض مناطق عازلة كبنغازي في ليبيا.
فبدأت الخيارات الأميركية تنحصر بضرورة توجيه ضربات عسكرية جوية لخلخلة بنية النظام تمهيداً لإسقاطه، كما حصل في يوغوسلافيا ثم ليبيا، ولكن صلابة الموقف الروسي-الصيني لا تبدو أنها قابلة للتغيير، حسب التوازنات الحالية على الأرض السورية.
وأمام هذا المشهد المعقد، من المتوقع أن يرتفع، في الأيام والأسابيع المقبلة، منسوب الدم في سوريا (وربما في لبنان). وستُرتكب المجازر مدفوعة الثمن وسيعلو الصراخ الطائفي والتضليل الإعلامي.. لكن الروس يراهنون على تماسك سوريا وقدرتها على سحق المجموعات المسلحة التي يعول عليها الأميركيون والتي تضم عشرات آلاف المسلحين، المحترفين والهواة، داخل سوريا، وعلى مشارف حدودها مع تركيا ولبنان والعراق.
بصموده وتماسك بنيته نجح النظام السوري بإعادة التوازن الإستراتيجي الى منطقة الشرق الأوسط بعد تفرد واشنطن بها منذ العام ١٩٧٤، فهل يصمد في معركة الشوط الأخير؟
الأوراق في صالحه على الأرض، لكن المفاجآت قد تقلب مجرى حركة التاريخ.
Leave a Reply