كان منطق الأمور يقتضي بأن يؤدي وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إسرائيل، الى إنفراجات في العلاقات العربية-العربية، دولاً وإحزاباً لمواجهة السلوك المتطرف لحكومة إسرائيلية يرأس دبلوماسيتها شخص دعا في وقت من الأوقات إلى تدمير السد العالي، وفي أكثر من مناسبة إلى طرد فلسطينيي أراضي الـ ٤٨ الى الضفة والقطاع وبلدان عربية أخرى.
لكن مسلسل الانهيارات العربية يأبى التوقف عند أي حدود، والأزمة الناشبة، بين مصر الدولة و”حزب الله” اللبناني بوصفه آخر المقاومات العربية التي تحاول، بلا نجاح يذكر، التوفيق بين شرعية المقاومات وشرعية الدول آخر نماذج الإنهيار، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأكبر “شرعية عربية” متمثلة بمصر وبأكبر وأقوى “شرعية مقاومة” يمثلها “حزب الله”؟
تمثل هذه المواجهة المستجدة على خلفية “خلية حزب الله” المكتشفة على الأراضي المصرية أحد أكثر وجوه الصراع حدة بين شرعيات الدول والمقاومات التي استقبلتها حكومة بنيامين نتنياهو بكثير من الشماتة، بطرفي المواجهة على حد سواء.
فهذه الحكومة التي استبقت تسلقها الى السلطة بسلسلة من الشروط والمواقف الرافضة لحل الدولتين والمعيقة لجهود الإدارة الأميركية الجديدة في محاولة إعادة وضع قطار الحلول لأزمة المنطقة على سكة ما، “تستمتع” حالياً بمشاهدة فصول المواجهة بين مصر و”حزب الله” التي تزيد الواقع العربي تشرذماً وتلهيه عما تبيته تلك الحكومة من مشاريع في عهد عتاة التطرف الإسرائيلي القافزين إلى السلطة بعد أسابيع من حربهم المدمرة على قطاع غزة، وتحويله إلى حطام لا يزال ينتظر جهود “التوافق” على إعادة البناء بين سلطة فلسطينية هزيلة ومقاومة محاصرة، ترك أمر التوافق بينهما إلى الدولة المصرية التي ترعى منذ انتهاء العدوان على غزة مفاوضات ماراثونية، قاسية ومعقدة، بين جناحي السلطة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية دون نتائج ملموسة حتى الآن.
المعركة الدائرة رحاها عبر الأثير وعلى صفحات الصحف بين السلطة المصرية والحزب اللبناني المقاوم هي إذن، معركة إثبات شرعيات تغيب عنها مخاطر إلغاء الهوية الفلسطينية ومواجهة تمادي إسرائيل في إنكار حقوق شعب باكمله، وتقدم لها الغبار الكافي للإستمرار في مناوراتها السياسية والإعلامية بإزاء ما تعد به المستجدات والمتغيرات الدولية من إمكانات لإيجاد حلول تلبي الحد الأدنى من تطلعات أصحاب قضية ذهب العرب في قمتهم في بيروت عام ٢٠٠٢ إلى حد تقديم عرض سخي بعلاقات طبيعية مع الدولة العبرية، مقابل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وتحقيق حلمه بإقامة دولته المستقلة على جزء من التراب الوطني الفلسطيني.
ولعل الوجه الأخطر من هذه المواجهة التي تستنزف جهوداً إعلامية وعملانية من طرفيها، يتثمل باحتمال لجوء الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل إلى التسلل من غبارها الكثيف لمحاولة تغيير حقائق على الأرض رتبتها حربا تموز ٢٠٠٦ وغزة ٢٠٠٨ اللتان أخفقتا في كسر شوكة آخر المقاومات العربية في لبنان وفلسطين ولم تستطع إسرائيل من خلالهما حسم معركتها مع هذه المقاومات، بل إنها (المقاومات) شرعت في اكتساب بعض الاعتراف من القوى الدولية التي ناصبتها العداء خلال حقبة السنوات القليلة الماضية، وكان آخرها الاستعداد الأميركي والغربي عموماً للتعامل مع حركة “حماس” في فلسطين بوصفها جزءاً أساسياً من القرار الوطني الفلسطيني، ومع “حزب الله” اللبناني بوصفه جزءاً أساسياً من النسيج الوطني والسياسي والطائفي اللبناني المعقد.
وإذا أدركنا أن إسرائيل التي لم تشف بعد من تجربة المواجهة المرة التي خاضتها ضد “حزب الله” في العام ٢٠٠٦ وخرجت منها مكسورة الهيبة، تعمل على مدار الساعة للانتقام للجرح البليغ الذي أصاب هيبة الردع التي امتلكتها ضد كل كل الدول العربية منذ قيامها على أرض فلسطين في العام ١٩٤٨، فإن مخاطر مواجهة من النوع القائم هذه الآونة بين أكبر الدول العربية وأكبر مقاوماتها أو ما تبقى منها، تصبح جلية، وتفتح آفاقاً أمام إسرائيل لشن حروب جديدة في فلسطين وفي لبنان بذريعة ملاحقة “التنظيمات الإرهابية” التي لم تعد الشكوى منها إسرائيلية-غربية بل عربية (مصرية) أو أردنية (ما مغزى إلقاء القبض على شبكة تعمل لصالح “حماس” تقوم بالتجسس على مواقع عسكرية أردنية؟!)، خصوصاً أن إسرائيل على لسان قادتها السياسيين والعسكريين تدأب على التذكير بأن قرار “وقف العمليات العدائية” على الجبهة اللبنانية الذي حمل الرقم ١٧٠١ أواسط آب (أغسطس) من العام ٢٠٠٦ لا يزال “حبراً على ورق” وأن من ينتهكه ليس الطلعات الجوية الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية (!) بل عمليات “تهريب السلاح” إلى “حزب الله” وقيام هذا الحزب بتعزيز ترسانته الحربية مجدداً بعد وقف “العمليات العدائية” الذي لم يتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار!
تحدث هذه المواجهة التي لا تسر إلا عدواً، بتداعياتها الخطيرة على ما تبقى من مناعة الجسم العربي في مواجهة مخططات حكومة اليمين الإسرائيلي الجديدة – القديمة، فيما تسارع القوى الإقليمية (إيران وتركيا تحديداً) إلى إعادة تموضع سياسي-استراتيجي في علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، مقدمة لوائح مطالبها ضمن خريطة نفوذ جديدة في المنطقة العربية والشرق أوسطية مع الأميركيين المنشغلين بالبحث عن مخارج لورطتهم العراقية والأفغانية، ومستغلين الحاجة الأميركية لـ”خروج مشرف” من المستنقع الذي أدخلت به أميركا على أيدي الإدارة الجمهورية البائسة السابقة.
والأرجح أن المعركة الإعلامية القاسية التي توجهها القاهرة ضد “حزب الله” على علاقة بدور “مسلوب” ترى العاصمة العربية الأكبر أنه يذهب باتجاه طهران وأنقرة على حسابها وعلى حساب “الوزن التاريخي” للدور المصري في المنطقة العربية الذي تشتبه القاهرة أن واشنطن سعت منذ عهذ الرئيس السابق جورج بوش الى تهميشه عبر إثارة النعرات الطائفية في الداخل المصري، من خلال الانتقادات الأميركية لسجل النظام لحقوق الإنسان وإثارة “القضية القبطية” وافتعالها.
وإذا ما علمنا حساسية النظام المصري والمصريين عموماً بكل ما له علاقة بالطوائف والمذاهب ندرك مغزى التركيز المصري في اتهام “خلية حزب الله” بالسعي الى “نشر الفكر الشيعي” رغم إدراك النظام أن الحزب اللبناني لا يضع مسألة التبشير في أولوياته ولا حتى في أجندته السياسية أو العقائدية، لكن القاهرة التي أخفقت دبلوماسيتها إخفاقاً ذريعاً في التعاطي مع مجريات العدوان الإسرائيلي على غزة وجدت في هذه التهمة وتراً يحسن مسه لاستنفار تعاطف المشاعر الشعبية مع النظام الذي يخوض “معركة على السيادة الوطنية” والتصدي لمحاولات “الاختراق العقائدي” للمصريين الذين يدينون بغالبتهم الساحقة بالمذهب السني.
على أن اللافت في المواجهة القائمة بين الدولة المصرية وأجهزتها الأمنية والقضائية و”حزب الله” أن أياً من أطراف الممانعة دولاً أو أحزاباً أو حركات لم يبادر الى دخول هذه المعركة انتصاراً لحزب الممانعة والمقاومة، بل إن “حركة الإخوان المسلمين” المصرية ذاتها ظلت حريصة على وضع موقفها، الإعلامي أقلاً، في خانة المحافظة على السيادة والأمن المصريين من أية “اختراقات أجنبية” والحديث عن ضرورة تنسيق أي أنشطة داعمة لقضية الشعب الفلسطيني في قطاع غزة مع أجهزة النظام والدولة المصريين، وهي تعلم علم اليقين أن تنسيقاً من هذا القبيل دونه “شيب الغراب” لأسباب عديدة ليس أقلها ارتباط النظام بمعاهدة سلام مع إسرائيل.
يبقى أن ما لا يغيب عن بال طرفي المواجهة القائمة، أو يجب ألا يغيب هو أنهما سيخرجان خاسرين منها وأن الرابح الحقيقي من هو من يتقن فنون المفاوضة مع أصحاب الشأن الدوليين في موسم إعادة توزيع النفوذ في منطقة بات صراع الأنفاق الميدانية والسياسية طريقها الوحيد إلى النور!.
Leave a Reply