كمال ذبيان – «صدى الوطن»
رغم مرور أكثر من أسبوعين على نشوب الأزمة السعودية–اللبنانية على خلفية تصريحات سابقة لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، لم تنجح الجهود المحلية والخارجية –حتى الآن– في خلق كوة بجدار الأزمة التي باتت تلخص النزاع المحتدم على موقع لبنان في صراع المحاور الإقليمية والدولية، وتحديداً موقفه من التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وبينما تصر قوى وطنية لبنانية على رفض إقالة الوزير قرداحي دون مقابل سعودي، رفضاً لإملاءات الرياض وحفظاً لكرامة وسيادة لبنان، لا يستبعد المراقبون أن يلجأ السعوديون إلى تشديد الضغوط على لبنان من خلال عدة أوراق سياسية واقتصادية يملكونها، مثل منع استيراد السلع اللبنانية، واستخدام لقمة عيش اللبنانيين المقيمين في المملكة كورقة ضغط لابتزاز القوى الرافضة لإقالة قرداحي، مثل «تيار المردة» برئاسة سليمان فرنجية وحركة «أمل» و«حزب الله» و«السوري القومي الاجتماعي» والحزب الديمقراطي بزعامة طلال إرسلان، الذين لديهم عدد كاف من الوزراء لإسقاط حكومة نجيب ميقاتي المعطلّة في حال إجبار وزير الإعلام على الاستقالة بموافقة رئيس الجمهورية ميشال عون.
تعريب الحل
دخلت جامعة الدول العربية على خط الأزمة، كما يفرض عليها دورها عند حصول توتر بين دولتين عربيتين، فحضر إلى بيروت الأمين العام المساعد للجامعة، حسام زكي، مستطلعاً موقف لبنان دون أن يحمل معه أية مبادرة للحل.
بل اعتبر زكي أن استقالة قرداحي هي الخطوة الأولى التي يجب أن تتخذ لفتح باب الحلحلة، فجاء بذلك حاملاً الشرط السعودي، الذي لم يقبله لبنان واعتبره البعض إملاءات مهينة خاصة وأن كلام قرداحي الذي أزعج المملكة لم يكن سوى رأي شخصي حول حرب اليمن قبل توليه الحقيبة الوزارية. وبالتالي من غير المنطقي معاقبته عليه كمسؤول رسمي عدا عن معاقبة لبنان ككل بسبب تلك التصريحات.
كما سبق أن أقال المسؤولون في لبنان وزير الخارجية السابق شربل وهبة إرضاءً للمملكة، بعد أن تفوّه بعبارة مسيئة لشعوب الخليج الذين وصفهم بالبدو، مما أثار حملة عليه دفعته إلى الاستقالة دون أن تقوم السعودية في المقابل بأية بادرة حسن نية تجاه لبنان.
كما كان متوقعاً، لم تنجح زيارة زكي بتقديم أي حل عربي للأزمة، بل أكدت أن المسألة لا تكمن في تصريح قرداحي، بل في دور «حزب الله» المتنامي في محور المقاومة الممتد إلى طهران، حيث انخرط الحزب خلال السنوات الماضية في العديد من الصراعات على الجانب المعاكس للمملكة المنخرطة أيضاً بتلك الصراعات، من اليمن إلى العراق وسوريا وغزة.
فقد ساهم «حزب الله»، بحسب السعودية، في دعم جميع قوى محور المقاومة في المنطقة، سواء بالقتال المباشر إلى جانب الجيش السوري أو عبر تقديم خبراته العسكرية لـ«الحشد الشعبي» في العراق وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والحوثيين في اليمن الذين أمدهم الحزب بمستشارين فنيين ومدربين عسكريين لاستخدام وتطوير الصواريخ «البالستية» والطائرات المسيّرة التي غيرت سير المعركة لصالح «أنصار الله» الذين باتوا يسيطرون على 12 محافظة كما تمكنوا مؤخراً من دخول مأرب واستعادتها في انتصار استراتيجي على التحالف السعودي.
اشتباك إقليمي
الصراخ السعودي في لبنان ليس إلا نتاج الألم الذي تعاني منه المملكة في اليمن على يد «أنصار الله» وحلفائهم، والذين ستترتب على السعودية مفاوضتهم لإنهاء حربها الفاشلة هناك، خاصة بعد رفض إيران التدخل لحفظ ماء وجه المملكة وإنزالها عن «شجرة اليمن».
فبعد أربع جولات من الحوار مع الإيرانيين في العراق، أكدت طهران للسعوديين أن ملف اليمن هو بيد الحوثيين أنفسهم، وهو ما دفع السعوديين إلى إعلان قطيعة دبلوماسية مع لبنان بحجة تصريحات قرداحي، لكن بهدف الضغط على محور المقاومة.
غير أن لبنان الرسمي الذي تحول إلى «فشّة خلق» للغضب السعودي المتراكم، فقد أبلغ موفد الجامعة العربية، بأن لبنان يلتزم بالقرارات العربية، لكن الدول العربية نفسها غير موحدة على تلك القرارات، فكيف للبنان أن يطلب من «حزب الله» عدم المشاركة في الحرب في سوريا، بينما هناك أطراف لبنانية وعربية ودولية عديدة شاركت فيها. ويقول المراقبون إن الدعوات إلى الحياد والنأي بالنفس التي روّجها حلفاء السعودية في لبنان لم تكن واقعية قط، لاسيما وأن المجموعات الإرهابية دخلت لبنان واحتلّت أجزاء من سلسلة الجبال الشرقية وفي مقدمتها بلدة عرسال وجرودها، فيما نأى حلفاء الرياض بأنفسهم –حينها– بداعي أن تلك المجموعات تمثل «الثوار» المعارضين للرئيس بشار الأسد، قبل أن يقوم هؤلاء الإرهابيون باختطاف وقتل ضباط وعناصر من الجيش وقوى الأمن الداخلي، مما اضطرّ «حزب الله» إلى التدخل لتحرير تلك المناطق بمشاركة الجيشين اللبناني والسوري، بعد تطهير القلمون والقصير ومحاصرة المسلحين في جرود عرسال.
جوهر الأزمة
في ظل الانقسام الداخلي حول موقع لبنان من لعبة المحاور المتصارعة في المنطقة، يتموضع اللبنانيون بين محورين، الأول مقاوم للعدو الإسرائيلي، والثاني متقبل له ولا يمانع التطبيع معه.
وفي ظل موجة التطبيع العربية الخليجية مع دولة الاحتلال، وميل السعودية نحو الانضمام إلى قطار «السلام» مع الصهاينة، يخشى المراقبون أن يتحول لبنان خلال الفترة القادمة إلى ساحة صراع بين محوري الممانعة والتطبيع، وهو الذي قهر إسرائيل أكثر من أية دولة عربية أخرى.
فلبنان الذي استردّ أرضه بالمقاومة عام 2000، وصمد بوجه العدو الإسرائيلي في حرب 2006 حتى بات يشكل خطراً استراتيجياً على دولة الاحتلال باعتراف أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية نفسها، ليس بوارد الاعتراف بدولة الاحتلال مجاناً كما فعلت بعض الدول العربية مؤخراً، وهو الذي يمتلك من خلال «حزب الله» ترسانة صاروخية قادرة على فرض التوازن العسكري مع الجيش الذي قيل إنه لا يقهر قبل أن يجر أذيال خيبته في لبنان أكثر من مرة.
فترسانة الحزب وقدراته وخبراته العسكرية المتراكمة تؤرق الكيان الصهيوني وتهدد استقراره الأمني، وبالتالي فإن نزع سلاح المقاومة في لبنان هدف استراتيجي لإسرائيل وكل من يريد نيل رضاها وهو ما يفسر «الخنق الاقتصادي» المستمر لبلاد الأرز بغرض تحميل الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد لـ«حزب الله»، تمهيداً لإضعافه شعبياً وطرده من السلطة عبر الانتخابات القادمة.
وعلى هذا الأساس، بدأت تعبئة سياسية وإعلامية ضد الحزب مع اندلاع «الحراك الشعبي» في خريف 2019، عبر مطالبة البعض بنزع سلاح المقاومة وتطبيق القرار 1559، كما بدأت عمليات تهريب أموال ضخمة من البنوك اللبنانية منذ وصول عون للرئاسة كحليف لـ«حزب الله»، بغرض خلق أزمة مالية تضع اللبنانيين تحت خط الفقر وتفقدهم مدخرات العمر.
وأسفر الحصار المالي الخليجي على لبنان منذ ذلك الحين إلى تقلص الاحتياط النقدي في مصرف لبنان، وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إلى مستويات قياسية أمام الدولار، وسط إصرار سعودي على مواصلة هذه السياسة رغم مخاطر انهيار الدولة التي يحذر منها الفرنسيون والأميركيون والتي قد تُدخل لبنان في فوضى عارمة.
وإلى جانب نزع سلاح «حزب الله» تريد إسرائيل من لبنان أن يتخلى عن حق العودة للفلسطينيين والاستيلاء على مدينة القدس، وهي تنازلات تعتقد دولة الاحتلال –ومن معها– أنه بالإمكان تحقيقها من خلال سياسة الإفقار والتجويع قبل إغداق الأموال مقابل الإذعان والقبول بالشروط الصهيونية.
صراع متجدد
الصراع الحقيقي هو على لبنان، وفي أي محور سيكون: محور المقاومة أم محور التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
وهو صراع يعيشه اللبنانيون منذ نشأة إسرائيل التي وصل جبروتها إلى حد اجتياح بيروت عام 1982 وتنصيب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، قبل أن تحاول فرض اتفاقية «17 أيار» التي كانت كفيلة بجعل لبنان ثاني دولة عربية توقع سلاماً مع دولة الاحتلال بعد مصر، لولا انتفاضة القوى الوطنية اللبنانية التي منعت الرئيس أمين الجميّل من تطبيق الاتفاق وأبقت على لبنان في محور العداء لإسرائيل.
وما يجري على أرض لبنان هذه الأيام من تجويع وفقر وبطالة وانهيار للمؤسسات العامة والخاصة، ليس إلا استمراراً لمحاولات تطويق «حزب الله» وحلفائه في لبنان عبر تحميلهم مسؤولية الأوضاع المزرية من حملات سياسية وإعلامية ممولة خليجياً.
وبالفعل نجح العقاب الاقتصادي الخليجي للبنان، في تحويل حياة المواطنين إلى كابوس مستمر منذ سنتين، وذلك تمهيداً لتخييرهم في الانتخابات القادمة بين المقاومة من جهة، ونِعم الخليج من جهة أخرى، لعل صناديق الاقتراع تفرز هذه المرة أغلبية نيابية مناوئة لـ«حزب الله» فتعيد قلب موازين الداخل وتحاصر المقاومة وحلفاءها سياسياً، وصولاً إلى تحقيق الحلم الإسرائيلي بنزع سلاح الحزب حتى لو كان ذلك سيتطلب مواجهة مع الجيش اللبناني المدعوم أميركياً.
Leave a Reply