نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«معركة سوريا تشبه معركة ستالينغراد.. نصف انتصار فـيها هو هزيمة». هي عبارة قالها، بثقة، ديبلوماسي روسي فـي تشرين الأول من العام 2011، خلال جلسة خاصة، تزامنت حينها مع السقوط المدوي لنظام معمر القذافـي، على ايدي المجموعات المسلحة المدعومة من حلف شمال الاطلسي، فـي ما يسمّيه صناع القرار فـي الكرملين بـ«الخديعة الكبرى»، وترافقت مع اشتداد دموية الصراع فـي سوريا بعد عسكرة ما كان يعتبر حينها «ثورة سلمية».
الديبلوماسي الروسي استفاض حينها فـي شرح المقاربة الروسية للصراع السوري، انطلاقاً من تسلسل الاحداث منذ انهيار الاتحاد السوفـياتي فـي بداية التسعينات.
على أثر هذا «الزلزال الجيوسياسي» الذي ضرب العالم فـي مطلع التسعينات، والكلام هنا للديبلوماسي الروسي المخضرم، وفـي الطريق الى نظام دولي جديد، رسمت الولايات المتحدة استراتيجيتها للبقاء كقوة احادية على المسرح الدولي، وسعت إلى تطبيقها فـي ثلاثاً قطاعات رئيسية، لتكرّسها بتثبيت ركائز النظام العالمي الجديد الذي كان يجري تشكيله، وذلك على ثلاث مراحل، كل منها يستغرق عشر سنوات.
ووفقاً للديبلوماسي الروسي، فإن القطاع الاول كان يتمثل فـي شرق اوروبا، وفـيه بذلت الولايات المتحدة، وطوال عقد التسعينات، نجاحاً ساحقاً تمثل فـي تقسيم يوغوسلافـيا، واسقاط نظام الرئيس سلوبودان ميلوسيفـيتش، وفصل كوسوفو، وهو ماتحقق عملياً بين العامين 2001 و2002.
وهنا، أضاف الديبلوماسي الروسي، أتى دور الشرق الاوسط، وقد حددت فـيه الولايات المتحدة عشر سنوات أخرى، كفترة زمنية لتنفـيذ سياساتها، مشيراً الى انه خلال تلك الفترة، كانت حرب تموز العام 2006، والتي اخفقت فـي إقامة «شرق أوسط جديد»، وفق عبارة وزير الخارجية حينها كوندليسا رايس، فكان أن انتقل الصراع الى أماكن أخرى فـي العالم العربي، وتحديداً الى سوريا، التي بدأت محاولات تقسيمها فـي مطلع العام 2011، وذلك بعد تحييد مصر وحصرها فـي مشاكلها الداخلية، وكل ذلك فـي محاولة لإحياء ذلك «الشرق الاوسط الجديد»، بركائزه الثلاث: تركيا وإسرائيل وأثيوبيا، بما يمهد للانتقال الى المرحلة الثالثة، المتمثلة فـي تطويق روسيا وإيران، وقطع الطريق بين الصين وافريقيا.
الديبلوماسي الروسي استشهد، يومها، بكثير من الكتابات الأميركية، وخص بالذكر ريتشارد هاس وطوماس فريدمان، ليخلص الى القول إن سوريا هي «ستالينغراد العصر»، التي تشبه ستالينغراد الحرب العالمية الثانية فـي كونها «معركة لا تحتمل انتصاراً ناقصاً»، مشبهاً الولايات المتحدة بالزعيم النازي أدولف هتلر، الذي تمكن من السيطرة على القسم الأكبر من المدينة الروسية، لكنه فشل فـي تحقيق الانتصار الكامل، وكانت تلك بداية هزيمته.
انطلاقاً من هذه المقاربة الديبلوماسية الصريحة، يمكن القول إن التدخل الروسي قد بدأ التخطيط له منذ بدايات الصراع الدامي فـي سوريا، الى أن حانت الفرصة المناسبة.
وانطلاقاً من هذه المقاربة نفسها، فـي فهم الحيثيات الشاملة للتدخل الروسي، الذي يجمع أصدقاء الكرملين وخصومه على حد سواء، انه أعاد خلط الأوراق الميدانية والسياسية فـي سوريا، لا بل أعاد رسم التوازنات الداخلية والاقليمية والدولية، فـي الوقت التي ظنت فـيه الولايات المتحدة وحلفاؤها أن النصر النهائي على دمشق قد بات ممكناً.
ومن أبرز الشواهد على تلك التحولات الجيوسياسية الحساسة يمكن الحديث عن الزيارة التي قام بها بشار الأسد الى موسكو يوم الثلاثاء الماضي، وهي الزيارة الأولى للرئيس السوري الى الخارج منذ بدء الأزمة قبل ما يقرب من خمسة أعوام، فـي خطوة بالغة الرمزية، ترتقي الى مستوى المحطة المفصلية فـي الصراع ليس على مستوى سوريا فحسب، بل على المستويين الاقليمي والدولي.
وبالرغم من ان شيئاً لم يرشح عن المداولات التي جرت بين بوتين والأسد، إلا أن ثمة إجماعاً، وتحديداً لدى الغربيين، بأن الزيارة مثلت «زلزالاً ديبلوماسياً»، وبدت أشبه بدلو ماء مثلج سُكب على رؤوس معارضي الرئيس السوري، خصوصاً انها أكدت، فـي الشكل، أن الوضع فـي سوريا قد تغيّر نحو الأفضل، وإلا لما كان للرئيس السوري أن يغادر بلاده، ولو لساعة واحدة، فـي حال شعر بأن الخطر ما زال محدقاً، وأظهرت بالفعل أن روسيا وسوريا تمثلان جبهة واحدة قوية ضد الجميع، سواء فـي الداخل السوري، حيث يخوض الجيشان أشرس المعارك ضد الجماعات المسلحة، بما اسهم فـي استعادة السيطرة على مساحات واسعة فـي سوريا، أو على مستوى السياسة الدولية، حيث يخوض الطرفان أشرس المعارك من القرم ولوغانسك ودونيتسك الى دمشق وما بعدها.
وفـي جوهر هذه الزيارة، والكلام الذي صدر عن الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين، نقطة أساسية، تتعلق فـي أمر واقع فرضه سيد الكرملين على الجميع، وهو أن روسيا وحدها تمتلك مفتاح سوريا.
أبلغ بوتين ضيفه أنه يأمل أن يتبع التقدم على الجبهة العسكرية تحركات نحو حل سياسي فـي سوريا وهو بذلك يعزز آمال الغرب فـي أن تستعمل موسكو نفوذها المتزايد لدفع الأسد للحوار مع معارضيه.
ولعلّ الرسائل التي أطلقها بوتين، خلال لقائه الاسد، بدت حاسمة، أن لجهة التشديد على أن روسيا تمسك بخيوط اللعبة، فـي الاطارين العسكري والديبلوماسي، جنباً الى جنب، أو فـي التأكيد على أن طريق الحل فـي سوريا لا بد ان يمر من موسكو، وهو ما ترجمه سيد الكرملين لاحقاً بسلسلة اتصالات أجراها مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، والملك الأردني عبد الله الثاني والرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان ليطلعهم على تفاصيل زيارة الأسد.
والواضح ان الزيارة السورية لروسيا والكلام الواضح الصادر عن فلاديمير بوتين قد مثلا دعماً غير مسبوق للرئيس الاسد، فـي ما يمكن اعتباره تتويجاً ديبلوماسياً للدعم العسكري الذي بدأته روسيا ضد الجماعات المسلحة فـي سوريا، والذي اظهر، بشكل لا لبس فـيه، ان روسيا هي الحليف الاكثر جدية للدولة السورية، برغم الدعم الايراني المتفاوت. ولعل هذا ما بات الرئيس السوري يدركه، وقد عكسه فـي عبارات من قبيل «التعبير عن الامتنان الكبير لقيادة روسيا الاتحادية للمساعدة التي تقدّمها لسوريا»، والاهم من ذلك مخطابته بوتين بالقول: «لولا أعمالكم وقرارتكم، فإن الإرهاب الذي انتشر فـي المنطقة، كان يمكن أن يبتلع منطقة أكبر وأن ينتشر على نطاق أوسع».
واذا كانت الايام المقبلة كفـيلة بالكشف عمّا دار فـي اللقاء المفصلي بين بوتين والأسد، وهي العبارة التي تكاد تكون مشتركة بين كل المتحدثين الرسميين الروس لدى سؤالهم عن فحوى المداولات بين الرئيسين الحليفـين، فإن ما يمكن قراءته بين سطور التصريحات الديبلوماسية يجيب على بعض الاسئلة المتعلقة بمستقبل الأزمة السورية.
ولعل أبرز تلك الاجابات تتعلق بما ستنتهي اليه العملية العسكرية الروسية فـي سوريا. وقد بدا الكلام الروسي واضحاً فـي هذا السياق، إن بعباراته الصريحة أو بترجمته الديبلوماسية، من خلال الاتصالات التي أجراها بوتين مع القادة العرب، وهي أن أفق التدخل العسكري فـي سوريا هو الحل السياسي للازمة التي تقترب من إنهاء عامها الخامس. وهو ما سبق أن أعلنه بوتين فـي اليوم الأول من الغارات الجوية، نهاية ايلول (سبتمبر) الماضي، حين قال بعبارات ديبلوماسية، لا تخلو من الثقة، انه يدرك بأن الرئيس الاسد سيستجيب فـي نهاية المطاف الى آمال شعبه بتسوية سياسية تفضي الى إنهاء الصراع.
ولكن التسوية السياسية اليوم ليست هي نفسها خلال الاعوام الماضية. وقد كان ملفتاً فـي هذا الإطار، أن الكلام الروسي خلا من الحديث عن «مرجعية جنيف» التي ظلت دوماً حاضرة فـي الخطابات والتصريحات الروسية بشأن سوريا.
ويبدو واضحاً ان الرئيس بوتين بات مدركاً اليوم إن موسكو هي وحدها من بات يحدد مرجعية العملية السياسية فـي سوريا، خصوصاً فـي ظل بداية العد العكسي لولاية باراك اوباما، وفـي ظل المعطيات العسكرية، التي قلبت الأمور فـي سوريا رأساً على عقب.
وإذ يبدو أوباما شبه مسلّم بالدور السياسي لروسيا فـي حل الأزمة السورية، كما تعكس تصريحاته الأخيرة، والتي بدت أشبه بتفويض مفتوح لفلاديمير بوتين، فإن المواقف الاقليمية إزاء سوريا بدت إكثر تسليماً بهذا الأمر، ولعلّ هذا ما عكسه نزول رجب طيب اردوغان وعادل الجبير عن شجرة المواقف المتعنتة، وإقرارهما بأن المرحلة الانتقالية فـي سوريا لا بد أن تشمل الرئيس بشار الأسد… وبانتظار ما ستؤول اليه الاتصالات الديبلوماسية الروسية، التي تسير جنباً الى جنب مع التحركات العسكرية فـي الميدان، يبدو واضحاً ان الحل السوري -والنتائج المترتبة عليه اقليمياً- قد صار روسياً بامتياز.
Leave a Reply