بقلم: فاطمة الزين هاشم
لمّا كانت الأسرة تشكّل نواة المجتمع، فقد أولتها الدول والشعوب وقبلها الأديان، الرعاية والإهتمام، إذ انطلقت في إعداد برامجها من محورها وما يحيطها، بغية المحافظة على تماسكها، كتمهيد لتماسك بنية المجتمع، مثلما أكّد ذلك علماء الإجتماع وما تمخّضت عن ذلك دراساتهم، حتّى بلغت من الأهمّية بحيث أفردت الجامعات حقلاً علمياً متخصّصاً ضمن فروعها مهمّته البحث في تفاصيل بناء الأسرة كأبرز عنوان من عناوين علم الإجتماع، ذلك لأنّ الأبوّة والأمومة يشكّلان الخيمة التي تظلّل الأبناء، فيشعرون بالرعاية والأمان والإستقرار النفسي، حيث تجمعهم أواصر التعاون والمودّة والإحترام المتبادل، لتكون بالنتيجة عوامل تساعد على تمتين الروابط الأسريّة التي ليس فقط سيعتزّون بها ويحافظون عليها، وإنّما سيحتاجونها حتّى ولو أصبح الأبناء آباءً وأمّهات.
دعتني إلى هذه المقدمة، إحدى صديقات ابنتي الصغرى، وهي في عمر التفتّح على العالم الخارجي، حين طلبت إليَّ الإصغاء إلى ما تعانيه من ضغوط نفسيّة سرعان ما رأيت آثارها بادية على وجهها البريء، فسردت لي كلاماً وكأنّه يشبه القصة، بل هو حقاً قصة واقعية حقيقية شدّتني إليها فتعاطفت معها إلى درجة أنّها شكّلت موضوعاً لمقالتي هذه.
قالت إنّ والدها تزوّج من أمّها منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً، وحين فتحت عينها على الحياة، وجدت أباها عصبيّ المزاج على طول الخط، عبوساً لا يعرف إلا الزعيق والصياح، ولا يجيد إلا لغة التوبيخ لها ولأخوتها وأخواتها ولوالدتها بسبب أو بدونه، فشبّوا على جوّ تسوده المشاحنات على طول الخط، فأثّر ذلك في نفسيّاتهم وأفرغ البهجة من حياتهم، ممّا جعلهم يشقّون طريقهم بأنفسهم، إذ لم يحظوا بأيّة لمسة حنان من أبيهم أو بضمّة صدر تشعرهم بالأمان، ثمّ صمتت وتنهّدت لتستطرد بعدها قائلة: (تزوّج أبي من وراء ظهر أمّي، وأنجب من زوجته الجديدة أربعة أبناء، ولدين وبنتين، لكنّ أمّي لم تعترض عليه أو تجابهه بالأمر خشية أن لا تعكّر صفو حياتنا نحن الأبناء، ولم يكتف بذلك، بل ظلّ منجرّاً وراء نزواته فأقام علاقات مع أخريات، ووصل به الأمر إلى أنّه أخذ يرفض كل طلباتنا، حتّى تنكّر لنا تماماً.)
صمتت البنت لحظةً، فقدّمت لها كأس ماء كرعته على عجل، ممّا أشعرتني بأنّ حلقها قد داهمه اليباس، وما أن استعادت أنفاسها، أكملت قائلةً:
(لقد مرض والدي، وآثرت أن أزوره، نظرت إلى ملامحه حيث كانت توحي بالإنكسار، فحدست أنّ ما سكنني عمراً يسكنه الآن، وما كنت أعانيه يعانيه مع فارق الحيثيّات، قال لي إنّ الطبيب أخبره بأنّه لن يعيش طويلاً، وكانت زوجته تتمنّى موته قبل الغد، إنّه سيرحل قريباً ويترك وراءه مآسيه التي خلّفها دون حساب آثارها المدمّرة في نفوس ضحاياه من أفراد أسرته، فما كان منه إلّا أن كدّس أوراقاً كتب على بياضها مذكّراته، كانت مكدّسة على المنضدة التي تجاور رأسه، سمح لي أن أطّلع عليها فاستخلصت منها أنّه أمضى خمسة وستين عاماً لا يتذكّر منها إلّا مشاهد ضبابية، ويتساءل عن الوجهة التي ذاب فيها العمر، وماذا أخذ من دنياه قبل أن يمضي إلى آخرته، أين أولئك الذين أمضى حياته بينهم؟ وقد تركهم بعد أن أشبع أمّي ضرباً وقهراً وإهانات، وهو يعترف بأنّها كانت تنظر إليه وفي عينيها شرود وصمت وانتظار، ثمّ يتساءل أين هي الآن؟ لعلّها تنتظر خمود أنفاسي وخروج روحي لتسكن بعد رحيلي، وهنا يبدأ بالإعتراف بخطئه، لكن بعد فوات الأوان، ثمّ يتساءل عن إخوته وأخواته الذين كانوا يحرّضونه ضدّ أمّي، فتركوه وحيداً يصارع آلامه وأوجاعه.)
قالت صديقة ابنتي بعد ذلك أنّها حين وجدته وحيداً وقد عافته زوجته الثانية، أخذتها عاطفة البنوّة تجاه الأبوّة، فلثمت يده التي كانت تضربها، وحملته إلى منزل الأسرة دون أن تستشير أو تخبر والدتها التي سرعان ما أحسّت بضعفه وانكساره والندم الذي ملأ عينه عندما اغرورقت بالدموع، ومضى إلى خالقه، وعندما أخرجنا ثيابه لنوزّعها على الفقراء، أحسست كم كان الفرق في حرارة مشاعري لو ترك لنا ذكريات طيّبة تربطنا به حتّى بعد الممات.
Leave a Reply