كانت أمي تردد دائماً أنها ولدتني يوم ولدت البقرة «الصبحا» في نفس الليلة، وقد مات جدي، أبوها، في نفس الأسبوع، وقد كانت ليلة تموزية حارة، مظلمة حالكة السواد، مليئة بالخوف والرعب والكوابيس، وفيما كانت أمي تفكر في موسم الحصاد وأعمال الحقل وجمع المحاصيل وقطف التبغ، فاجأها المخاض، فراحت تصرخ وتتألم، وفي الوقت ذاته كانت بقرتنا «الصبحا» هي الأخرى تخور بألم في اسطبلها، في غرفة البيت الثانية.
كان أبي مسافراً وليس في البيت سوى إخوتي، حتى «الداية» لم تكن موجودة ليلتها، إذ ذهبت لتوليد امرأة أخرى في حارة بعيدة. وهكذا خرجت إلى الدنيا في ليلة شؤم ومن دون عون أو مساعدة، وبعد آلام شديدة لم تتعرَّض أمي مثلها في كل ولاداتها السابقة، وقد عانت بعد ذلك من ضعفٍ شديد في صحتها وألم فظيع في وركها وتدهور كبير في معنوياتها، وزيادة على ذلك نضب الحليب في صدرها وراحت النساء والجارات يرددن على مسامعها بأني فأل نحس عليها، لذلك فقد أرضعتني البقرة «الصبحا» حولين كاملين قبل أن تموت.
تقفز الذاكرة وعمري حوالي ثلاث سنوات، حين عاد أبي من السفر. الكل مهللون وفرحون، وكان نصيبي من الفرحة كعكة مستديرة غرزت فيها خيطاً وعلقتها بفرح في رقبتي.
تعود الذاكرة وأنا في العاشرة، عندما عاد أبي يوماً ومعه شنطة كتب من قماش وحذاء أسود مطاطي، صنع «باتا». قال لي سوف تذهبين غداً إلى المدرسة. وكان هذا سبباً في اشتعال حرب بين أبي وأمي التي عارضت الفكرة تماماً. كانت تريدني مساعدة دائمة لها في أعمال البيت والعناية بأخوتي الذين جاؤوا بعدي.
لا أظن أن أحداً ينسى الأماكن التي نشأ وترعرع فيها. قد ينسى بقية أيام عمره باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة كما تفعل في إحدى مفاجآتها السارة والمحزنة.
السنون تمر تباعاً، لا يكاد الإنسان يحس بمرورها. كأن الزمن نهر سرمدي تموج فيه تلك الذكريات البسيطة، يوم كنا صغاراً نمشي ونلعب في دروب القرية التي كانت لها رائحة عبقة وفواحة، وتشعر بطعم ذلك الزمان، حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل. لم نكن نأكل كثيراً في وجبات الطعام. لا توجد لحوم ولا مقبّلات. من قبيل الاقتصاد في النفقة كان الشاي مشروب الكبار فقط، حيث يجلسون ويتحدثون ونحن الصغار نسمع ولا نتكلم.
لم يكن الدخل السنوي يهم أحداً ولا أحد يبالي بالحالة الاقتصادية في الضيعة. كان القرويون –كلهم تقريباً– سواسية كأسنان المشط. نفس التعب والمعاناة، لكنهم يحسون بالعزة والمنعة والطمأنينة، وأحياناً الثراء. كنت أعلم ذلك بالإحساس وأنا طفلة، من الطريقة التي يمشي بها أبي والفلاحون الآخرون. لا يمشون مختالين، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى ومرفوعي الرؤوس، لا يساورهم شك في أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم والبيوت بيوتهم.
من في مثل جيلي، لا شك أنه أنصت مثلي إلى أحاديث آبائه وجيرانه المليئة بالمحبة والحكمة والطمأنينة، فماذا أصابنا بعد ذلك، أم ماذا أصاب الزمان ولماذا أصابهم بعد ذلك الإحساس بالمذلة والهوان؟ هل هو الزمان أم الحرب أم العمر؟
هذه الأفكار راودتني البارحة عشية عيد ميلادي الستين، استعرضت معها شريط أيامي الطويلة وسألتها ماذا تتمنى أو تحلم به وكانت الإجابة واضحة وصادقة: هي أن أغمض عيني ولا أفتحها ثانية. هذه هي أمنيتي الأخيرة…
Leave a Reply