على وقع الانهيار الاقتصادي والسياسي والمعيشي
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لطالما تباهى المسؤولون في لبنان، بالاستقرار المالي والأمني، في الوقت الذي كانت فيه دول المنطقة تحترق وأنظمتها تنهار خلال ما سمي بـ«الربيع العربي»، بل حتى في خضم الأزمات والحروب التي عاشها لبنان لاسيما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية عام 2005، حيث انقسمت البلاد سياسياً لكن الأمن ظلّ ممسوكاً والليرة اللبنانية مستقرة، في ظل تدفق الاستثمارات والودائع إلى نظامه المصرفي الذي كان بمثابة درة تاج الاقتصاد اللبناني الريعي.
الانهيار الاقتصادي
ولا شك أن تدفق الودائع من الدول العربية ودول الاغتراب حقّق ثباتاً لسعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، في ظل السياسة النقدية التي اتّبعها حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة، الذي كان يفتخر باستقرار الليرة اللبنانية، ويؤكد بأنها «بألف بخير»، حيث كان يطل على اللبنانيين بين الفينة والأخرى مطمئناً بأن ودائعهم بأيادٍ أمينة، ولا خوف عليها، بعد أن وصل حجم الودائع إلى حوالي 180 مليار دولار.
تلك الودائع الخارجية أعطت غطاء لليرة اللبنانية، التي رفعت المصارف الفائدة عليها، لجذب المزيد من أموال المودعين الذين آثروا –بفعل هذه السياسة– إيداع مدخراتهم في البنوك والاستفادة من الفوائد المرتفعة دون استثمار أموالهم في الاقتصاد المحلي.
غير أن أموال المودعين التي لم تجد طريقها إلى الاقتصاد اللبناني، كانت المصارف –وبطلب من مصرف لبنان– تضعها تحت تصرف الحكومات المتعاقبة، التي كانت بحاجة لتمويل موازنة الدولة، التي كانت تزداد عجزاً سنة بعد أخرى.
أما الانهيار المالي الذي يعاني منه لبنان اليوم، فقد ظهرت بوادره منذ تسعينيات القرن الماضي، بسبب نهج الاستدانة الذي اتّبعه الرئيس رفيق الحريري ونفذه حاكم «مصرف لبنان»، الذي اعتمد فوائد عالية لسندات الخزينة، لتعويم الليرة اللبنانية، وصلت إلى حوالي 42 بالمئة، فعطّل بذلك، الاقتصاد وشلّ الحركة الاقتصادية التي اقتصرت على القطاع العقاري والريع المالي. وقد جرى تحذير الحريري من هذا النهج مراراً ومعه وزارة المال التي كانت تحت سيطرته المطلقة وكذلك مصرف لبنان وحاكمه الذي كان يعمل مندوباً للحريري في شركة «ميريل لينش» قبل أن يعيّنه على رأس البنك المركزي، حيث أسس لسياسة نقدية دعمت تثبيت سعر صرف الليرة من خلال استدراج الودائع بفوائد عالية دون استثمارها في مشاريع منتجة، حتى تجاوز العجز التجاري في لبنان 17 مليار دولار سنوياً، حيث كانت البلاد تستورد بأكثر من عشرين مليار سنوياً، ولا تصدر سوى بمليارين أو ثلاثة، وهو ما راكم الديون والعجز حتى انكشفت الليرة ومعها خزينة الدولة، لاسيما بعد سحب الودائع الخليجية من النظام المصرفي فانكشفت لعبة «تركيب الطرابيش» المستمرة منذ حكومة الحريري الأولى.
إذ أن النهج المالي، الذي سارت عليه الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ العام 1993، ومعظمها برئاسة الحريري، أوصل لبنان إلى الانهيار الحتمي الذي لا مفر منه بمجرد توقف دخول الودائع الأجنبية. وهو ما حصل بقرار أميركي–خليجي رداً على نتائج الانتخابات النيابية التي أوصلت «حزب الله» وحلفاءه إلى السلطة.
فلم يمر أكثر من سنة واحدة، حتى أعلن وزير المال السابق علي حسن خليل في منتصف العام 2019، بأن لبنان يتّجه إلى «هيكلة الدين»، وهو تعبير عن عجز الحكومة عن تسديد ديونها، التي بلغت نحو 90 مليار دولار. ثم جاءت حكومة حسان دياب، لتمتنع عن تسديد ما مستحقات سندات الـ«يورو بوندز» للدائنين، في إشارة واضحة إلى إفلاس الخزينة وفقدان الثقة بالدولة ومعها النظام المصرفي، فتسارعت عملية تهريب الأموال إلى الخارج في أواخر العام 2019 وسط غياب لأي قانون يضبط هجرة الرساميل (كابيتال كونترول).
أمام ذلك استغلت المصارف حالة الفوضى التي أحدثها «الحراك الشعبي» في خريف ذلك العام فأغلقت أبوابها وبدأت بتقنين سحب الودائع من خلال تعاميم لـ«مصرف لبنان» زادت الطين بلّة، مع فرض سعر صرف لليرة، مختلفاً عن السوق السوداء الموازية، فغابت الثقة بالقطاع المصرفي وراح الانهيار يتفاقم مع ظهور وباء كورونا ثم انفجار مرفأ بيروت وما تبعه من فراغ حكومي مستمر منذ أكثر من عام.
الهاجس الأمني
مع الانهيار المالي، وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي محلياً ودولياً، خسر لبنان إحدى أهم ميزاته التي اشتهر بها منذ أواسط القرن الماضي، كـ«مصرف للعرب»، ولكنه لا يزال يتمتع بميزة الأمن التي أرستها السلطة السياسية عبر الجيش والقوى الأمنية بعد انتهاء الحرب الأهلية.
ولا تزال القوات المسلحة التي تأتمر بالسلطة السياسية، تؤكّد يومياً بأن الأمن خط أحمر، لا يمكن القفز فوقه، وقد جرى بالفعل استخدام المؤسسات العسكرية والأمنية، لحفظ أمن المجتمع، لاسيما خلال «الحراك الشعبي» الفوضوي الذي بدأ في 17 تشرين الأول 2019، ومرّ بمراحل وسيناريوهات عديدة، دون أن يقدّم قيادة أو برنامجاً موحداً، فتحوّل بفعل الاستغلال السياسي إلى فوضى وغوغاء وتخريب، مما وضع الجيش والقوى الأمنية بمواجهة الشارع المحتقن.
وبالفعل، تمكّن الجيش من احتواء الحراك، دون أن يذهب إلى قمعه، بل من خلال تفهّم مطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد، التي هي مطالب كل الشعب، ومن ضمنه الجيش والقوى الأمنية.
لكن هذا الأمن بدأ يهتز مع تفاقم الوضع المعيشي وفقدان المواد الأساسية كالمحروقات والأدوية والطحين، وهذا ما دفع بالمواطنين إلى التهافت على محطات الوقود والصيدليات والأفران، وتسبّب ذلك بصدامات تبدأ فردية لتتحوّل إلى مناطقية وطائفية ومذهبية، إذ لا يمرّ يوم دون حصول حادث أمني، وكل ذلك بسبب الضغط المعيشي وارتفاع نسب البطالة، لاسيما في صفوف الشباب، الذين تحوّل بعضهم إلى أعمال السلب والسرقة، كما راجت في صفوفهم المخدرات، التي ارتفع عدد المتعاطين بها إلى أرقام مذهلة، وهذا ما رفع من معدل الجرائم إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ لبنان.
تدهور اجتماعي
الخوف على الاستقرار الأمني في لبنان، بات مبرراً تماماً في ظل عدم توفر مقومات الصمود للمؤسسات العسكرية والأمنية، التي انخفضت رواتب أفرادها بشكل دراماتيكي خلال السنتين الماضيتين، كما تعطّلت الخدمات التي كان يحصل عليها العسكريون من طبابة واستشفاء وتعليم، إضافة إلى النقل…
أمام هذا الوضع، توقّفت بعض المخافر عن تلبية شكاوى واستغاثات المواطنين، بينما يمتنع عدد كبير من العناصر عن الذهاب إلى مراكز عملهم، وبعضهم قدّم استقالته أو فرّ من عمله، أو سافر ولم يعد، وهو ما ينطبق على كافة الرتب.
وقد حاولت المراجع العسكرية والأمنية، نفي أو –على الأقل– تخفيف وطأة مثل هذه التقارير حول حالات الفرار والتمرّد أو عدم الالتحاق بالخدمة، من خلال حصر الموضوع بأفراد، لا يتعدون المئات من عديد عسكري وأمني يتجاوز 125 ألفاً.
لكن وزير الداخلية محمد فهمي اعترف مؤخراً بحصول عمليات فرار واسعة وهذه المؤشرات توحي بأن الانحلال بدأ يضرب أسس الأمن في لبنان، بعد أن ضرب كل القطاعات والمؤسسات في القطاعين العام والخاص.
فبعد الانهيار المالي والمصرفي والسياسي والصحي والتربوي والاجتماعي، من السذاجة الاعتقاد بأن الانهيار لن يطال في الأيام القادمة أمن المجتمع مع ازدياد الشروخ الداخلية وتدحرج الدولة ومؤسساتها نحو الفشل والزوال.
العين إذن، على الأمن الاجتماعي الذي بدأ يتزعزع في ظل تضعضع الأمن السياسي والعسكري، فما يحصل في العديد من المناطق اللبنانية من انفلات أمني وغياب للقوى العسكرية والأمنية، لا بد أن يبعث على التشاؤم حيال صمود الأمن، وهذا ما حذّر منه وزير الداخلية وتبلّغه مجلس الدفاع الأعلى في اجتماعاته مع قادة الأجهزة الأمنية، بأن الوضع يتّجه إلى انفجار أمني واسع يخشى أن يأخذ أبعاداً سياسية وطائفية ومناطقية، بينما الإمكانيات اللوجيستية للجيش والقوى الأمنية ليست مؤهلة لفرض الأمن الذي يحصل بالتراضي.
أمام هذا المشهد السوداوي، بدأت معالم الأمن الذاتي بالظهور في العديد من المناطق، وسط انتشار السلاح غير الفردي بين تشكيلات محلية. فما حصل في الاشتباكات الأخيرة بين بلدتي فنيدق وعكار العتيقة شمالاً، واشتباكات مغدوشة وعنقون جنوباً، وقبلها اشتباكات خلدة في الجبل، يشي بأن لبنان بدأ يفقد السيطرة على الأمن الذي بات آخر رصيد يملكه اللبنانيون بعد أن خسروا أموالهم وغذاءهم وصحتهم وتعليمهم وحقهم بالعيش الكريم…
Leave a Reply