في أميركا، كما في كل الديمقراطيات في العالم، تحتدم المعارك الانتخابية وتُستحضر لها العدة والعديد والشعارات، وتغرق الساحة الانتخابية بكل أنواع الكلام الدعائي الغث والسمين، وتجند وسائل الإعلام بأنواعها كافة فتملأ فضاءات الأميركيين لأسابيع قليلة، ثم لا تلبث حمى المعارك أن تخبو وسعير الكلام ينطفئ، مع النتائج الأولية وطلائع التوقعات حول الفائزين المحتملين. يهنئ الخاسرون الفائزين ويقول الجميع: غداً يوم آخر.
لكن الشعوب العربية هي من أندر الشعوب على وجه الكوكب التي يجري إلهاؤها بنتائج الانتخابات الأميركية، رئاسية أو نصفية، حتى انتهاء مفاعيلها والتهيؤ لدورة جديدة منها.. وهكذا دواليك. يعيش العرب على وقع نتائج الانتخابات الأميركية ويقتاتون من “تحليلها” فيما حكامهم قابعون على كراسيهم لا يتزحزحون عنها الا بالموت، اغتيالا أو إبعادا أو هرما، فيما يبقى تحليل الواقع السياسي العربي من التابوهات في كل البلدان العربية، حتى اذا ما جرت “انتخابات” أو “استفتاءات” استحالت حياة الناس الى مهرجان احتفالي يمجد سيرة القائد ويملأ “البخور” الفضاء عن “الانجازات” التاريخية و”الحكمة” في القيادة وغيرها من المصطلحات الممجوجة التي يمارس مطلقوها احتلالا نفسيا وارهابا للعقول والقلوب يمتدان من أعمدة الإضاءة في الشوارع الى غرف نوم المواطنين البائسين.
غداة الانتخابات النصفية التي أصابت حزب الرئيس بهزيمة نكراء على المستوى الأميركي برمته وأعادت سيطرة خصومه الجمهوريين على مجلس النواب وقلصت فارق الأغلبية في مجلس الشيوخ، خرج الرئيس أوباما وتحدث الى وسائل الاعلام متحملا كامل المسؤولية عن الهزيمة، ومقدرا مشاعر الإحباط لدى مواطنيه الذين لم يلمسوا تغييرا على المستوى الاقتصادي، وتحسنا في فرص العمل خلال السنتين الأوليتين من ولايته الرئاسية. لم يجد الرئيس حرجا في تحمل المسؤولية ومد يده للحزب الفائز لإكمال المدة المتبقية من ولايته بشروط مختلفة أملتها نتائج اليوم الانتخابي، وغيرت خارطة السلطة بصورة جذرية. لكن أميركا لم تهتز وشرع البيت الأبيض منذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج في محاولة استنباط صيغة تعاون مع القادمين الجدد لادارة دفة الشؤون الاصلاحية والعمل على حل أزمات أميركا بالتعاون والتكامل.
ومرة أخرى وجد العرب أنفسهم امام واقع سياسي أميركي متوهمين أنه “جديد” فيما هو في الحقيقة ديدن الحياة السياسية الأميركية المحكومة بالتغيير الداخلي لإرضاء تطلعات الناخبين كل سنتين أو اربع سنوات والتعامل مع مطالبهم التي تتراوح بين فرص العمل والتأمين الصحي وإصلاح قوانين الهجرة وتفاصيل أخرى كانت ولاتزال في صلب الأجندة الانتخابية للحزبين الوحيدين المحتكرين للسلطة منذ عقود طويلة.
أما السياسة الخارجية للإدارات الأميركية وكونغرساتها، المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية، فإن التغيير فيها لم يطل مرة أكثر من القشرة دون أن يمس بالجوهر الذي يقوم على حفظ وحماية المصالح الأميركية في الخارج والتي تشكل المنطقة العربية احدى أهم حاضناتها منذ زمن بعيد.
لقد جرب العرب كل أنواع المواجهة مع اميركا والغرب على خلفية الدعم الذي يقدمانه للكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين لكنهم لم يفلحوا في ثني أميركا والغرب عن هذا الدعم مقدار بوصة واحدة.
ثمة سلاح واحد لم يجربه الحكام العرب في هذه المواجهة مع اميركا والغرب وهو سلاح الانتخابات وتداول السلطة لانتاج جيل جديد من الحكام المحصنين ضد الموت على كراسي الحكم، وافساح المجال أمام تنمية بشرية واقتصادية حقيقية تعيد للانسان العربي كرامته وتنهي شعوره بالدونية ازاء باقي الأمم وتطلقه من أسر الإحساس بالضعف والاستسلام أمام غطرسة القوة التي تمارسها عليه اسرائيل ورعاتها من جانب، وحكامه من جانب آخر.
لم يستفد العرب من تجارب أمم ودول شبت عن طوق التبعية الناجزة للقوى العظمى، وصنعت لكياناتها حيثية دولية واقليمية فرضت احترامها على الكبار، مثل تركيا وماليزيا والهند وغيرها من الدول التي كانت تصنف عالمثالثية قبل عقود قليلة، لكنها استطاعت كسر ذلك الجدار والاطلالة على “العالم الأول” بتجارب اقتصادية فذة حصّنتها التجربة الديمقراطية التي مهما قيل في سيئاتها، تبقى الأقل سوءا من النظم السياسية القائمة على الحزب الواحد ذي العقيدة المقدسة التي لا تمس، ولو أحالت بلدانها وشعوبها الى خراب يباب. هل نسأل هنا اذا استفاد العرب من تجربة الامبراطورية السوفياتية ذات الجدران الحديدية كيف تهاوت في لحظات؟
لقد وصل العرب الى أسوأ أوضاعهم على الاطلاق، وهي اليوم أزرى مما كانت عليه يوم سقوط بيروت أول عاصمة عربية في يد الاحتلال الاسرائيلي عام 1982 وبغداد في يد الاحتلال الأميركي والغربي عام 2003. وها هو اليمن مشرف على مخاطر التحول الى دولة منبوذة وموبوءة بالارهاب، تمنع طائراته من الهبوط في عواصم أوروبا. ويجري اعداده ليكون ساحة المواجهة البديلة مع التنظيمات الارهابية التي خطفت الإسلام الى أجندتها المجنونة وتنذر بجعل ملايين اليمنيين وقودا لدورة جديدة من العنف الدموي والتدمير الممنهج لما تبقى من مؤسساته. وها هو السودان مقبل على الانشطار الى نصفين شمالي وجنوبي مع استفتاء يتهيأ الجنوبيون للانتقال معه الى الحضن الاسرائيلي الذي “لن يتخلى عنهم كما تخلى عن اللحديين في لبنان” وفق تصريح لأحد أبرز قادتهم!
وفي فلسطين تحمل التطورات اليومية فرض وقائع جديدة على الأرض في مسلسل التهويد والمصادرة للأراضي والاعتداء على الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين فيما ممثلو الشعب الفلسطيني بجناحيه الحمساوي والفتحاوي يخوضون المعارك الدونكيشوتية حول أحقية تمثيلهم لتطلعات شعبهم، وفيما تشرف اسرائيل أيضاً، عبر قانون المواطنة الجديد على تشريد أكثر من نصف مليون انسان فلسطيني من أرضهم، أو في أفضل الأحوال تحويلهم الى “هنود حمر” حقيقيين في دولة اليهود.
وفي العراق تنهش أسنان الفتنة المتوحشة ما تبقى من مسيحييه في كنائسهم وفي قلب العاصمة العراقية، وينبري “جهاديو” القاعدة الى توجيه الانذار الأخير لمن تبقى منهم بالخروج من دياره وأرضه في ظل العجز عن تشكيل حكومة لأكثر من ثمانية أشهر بعد انتخابات ديمقراطية كلفتهم الكثير من الدماء والدمار.
ويخشى مسيحيو لبنان على مصيرهم مع احتلال أحاديث الفتنة لصدارة الاهتمام في الشوارع والبيوت والصالونات السياسية وشاشات التلفزة، ويتوجس باقي اللبنانيين من مصير شبيه بمصير أخوتهم العراقيين، وهم لم يخرجوا بعد من مفاعيل حربهم الأهلية المدمرة، وها هم ملايين المصريين يحبسون أنفاسهم ويكتمون جوعهم للوقوف على نتائج معركة التوريث التي يخوضها رئيسهم بكل الأسلحة المتاحة.
نعم، ربما تكون أميركا وغيرها من دول الغرب غير معنية بالحفاظ على بلدان العرب وشعوبها من فتنة ظلت نائمة دهورا ويجري ايقاظها على وقع حوادث يجري استغلالها من القوى الكبرى المؤثرة وذات النفوذ العالمي. ولكن ماذا فعل العرب حكاما وشعوبا لدرء المخاطر المحدقة بأسس وجودهم، أكثر من الصراخ والوعيد. ومن افراز تنظيمات تهدد وتقتل المسيحيين، وتلغ بدماء المسلمين سنة وشيعة، وتضعهم في مواجهة عديمة التكافؤ مع عالم مدجج بالمعرفة تفصله عنهم مسافات ضوئية من العلم والتقدم في مختلف مدارك الحياة المعاصرة.
الأجدى للعرب ألا يقضوا السنتين القادمتين في الحديث عن نتائج الانتخابات النصفية الأميركية وعن معركة الرئاسة الأميركية المقبلة، لأن العاصفة اقتربت من كياناتهم وتهدد باقتلاع العديد منها ولا فرق إن كانت رياحها ديمقراطية أو جمهورية.
الأميركيون يغيرون ممثليهم ويعيدون تشكيل سلطتهم السياسية مرة على الأقل كل أربع سنوات، أما العرب فلا يزالون بانتظار “غودو” وقد تخشبت أقدامهم من الانتظار وصارت جلودهم ووجوههم كقطع الآثار على حد وصف الشاعر الراحل نزار قباني لواقعهم الذي لم يتغير منذ قرن من الزمن.
Leave a Reply