تتعدد التأويلات والتحاليل لما يجري في المنطقة العربية ولا يمكن ان تجد تفسيرا واحدا فقط لما يحصل، لكن على الأرجح أنّ ما يعيشه بعض “أولي الأمر” من حكام ومشائخ العرب وخاصة حكام قطر، والذي ظهر في سلوكياتهم، وتبلور في سياساتهم، ما يدلّ بما لا يدع أيّ مجال للشك، أنّهم يعيشون حالة من الإضطراب النفسي أدت بهم إلى مرض إنفصام الشخصية (الشُوزفرينيا) وقد برز ذلك في سياستهم فهم في حالات يظهرون وهم يبكون أو يتباكون على دماء الأبرياء الذين يقتلون ويُظهرون الحرص على إيقاف سفك الدماء وفي حالات أخرى يدعُون للحروب وتجييش الجيوش وإستقدام الأساطيل ويبذلون المال والجهد في ذلك، ولم يدّخروا وسيلة للتحريض إلاّ وجرّبوها ولا طريقا للحرب إلاّ وسلكوها، ولا تبريرات للقتل إلاّ وقدموها، لكن للاسف الشديد المستهدفون بهذه الحروب ليسوا إلاّ إخوة لهم في الدين والدم والوطن، وكأنّي بقصة قابيل الذي غدر بأخيه هابيل رغم أواصر القربى والدم تتكرر، لكن هذه المرّة لن يُغدر بهابيل واحد فقط بل بالآلاف المألّفة.
جنود الناتو: الطيور الأبابيل
رغم ما إنكشف من هول الدمار ومن النتائج الكارثية بشريا وإقتصاديا وعمرانيا بعد توقيف حلف الناتو لعملياته في البلاد الليبية إلاّ إنّ بعضهم لايزال يخرج علينا وبكل صفاقة وقلّة مروءة وعدم إحترام للدماء الزكية التي سُفكت والأرواح البريئة التي أزهقت بتبريرات لما جرى من القتل والإعتداء على حقوق الإنسان من الأفراد والجماعات في ليبيا، وأبسطها حقّهم في الحياة الآمنة. لكن خلافا لكل ذلك أطل علينا عبر الصحف وعلى أغلب روابط التواصل الإجتماعي المدعُو بشير سالم مبارك من شيوخ وأعيان قبائل الزنتان الليبية، كما عرَّف نفسه، بأعجوبة الأعاجيب ليمسح بـ”أسْتيكة” كل جرائم الحرب لأنها حسب رأيه لا تعدو أن تكون إلاّ عملية إلهية أيّد الله فيها الثوار بجنود الناتو كما أيّد عبدالمطلب جدّ الرسول (ص) بجيش من الطير الأبابيل الذين حاربوا أبرهة الأشرم أثناء حملته العسكرية على مكة وكانوا سببا في هزيمته قبل البعثة المحمدية.
لكن على حدّ علمنا فالطيور الأبابيل حاربت أبرهة ملك الحبشة لأنه غزا مكّة فهل غزا الليبيون بلدان حلف “الناتو”؟ والجواب بالطبع لا.
لقد إنقلبت الصورة مع شيخنا الفيلسوف، فكان قياسه مقلوبا، ولا نعلم هل هذا رغبة منه في المغالطة أم هو جهل بما ورد في القصة القرآنية حول غزوة أبرهة لمكة في ما عرف بعام الفيل؟ نحن ننزه شيخنا عن الكذب، والأرجح أنّ شيخنا (اسم النبي حفظو وصَينُو) أخطأ بفعل الجهل لأنّ لنا أولياء أمور بعضهم “أضْرب” من بعض و”أجدعهم” يفك الخط بالعافية، فنعم شيوخ العربان هم.
حقيقةً، برافُو خاص، لشيخنا العبقري على تحليله المُريع. لم نكن نعرف قبل ذلك أنّ لنا جهابذة وفطاحلة مثله، ولو أنّنا ندرك تمام الإدراك أنّ في “أولي أمرنا” كثير مثله أو أضلّ سبيلا. فبسبب شيوخنا هؤلاء، هذا هو حالنا: فقر وجهل ومرض رغم ما حبانا به الله من الخيرات والثروات لذلك لن يستوي الظل والعود أعوج.
وكما قيل “لكل داءٍ دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها”.
الدعوة لحرب الأهل: عار عليكم ما فعلتم عظيم
لم تكفهم مذابح ليبيا حتى أطل علينا حكام قطر بدعوة جديدة لحشد الجيوش لتحرير سوريا وحماية المدنيين، إنّها سخرية الأقدار. نعم، لقد هرِمنا، كما صاح قائلا أحد ثوار تونس بعد فرار بن علي، لكن من المضحكات المبكيات لم نشهد على مدى سنين عمرنا التي مرت دعوات إلى حشد الجيوش لتحرير أرض أو للمساهمة في مسيرة بناء لأوطاننا، هرِمنا لكن بعد هرَمنا وطول إنتظارنا أطلوا علينا لنسمع دعوات لشحذ السيوف لتُسلّ على الأهل ، فهل هذا هو المعروف الأَولَى به ذي القربى؟
نعم لقد دعا الأمير حمد مرة ثانية إلى ما لا يحمد عقباه، ولا نعلم الى أين يأخذ أميرنا المنطقة، ألم يقف لحظة ليراجع ما يفعله، ألم يرَ ما إنجر عنه القتل والدمار في الحرب على ليبيا من مآسي فاقت التصور، ألا يعلم أنّه يدفع بسياسته تلك المنطقة إلى حافّة الهاوية، هل قَدَرْ شعوبنا أن يحكمها إمّا جبابرة مستبدون أو دُعاة للحروب جاهلون؟
ألا يعلم الأمير، ومن لف لفه، أنّه إذا حضر الماء غاب التيمم؟ اذا لماذا الإستمرار في سياسة الدفع بالأزمة نحو المواجهة والحرب ما دامت هناك إمكانية للصلح؟
ألم توجد فسحة للإصلاح ورأب الصدع بعد أن قررت الجامعة العربية التي أصبحت مجرد منظمة تابعة لإمارة قطر، وأصبح أمينها العام مجرد سكرتير في وزارة الخارجية القطرية، وبإيعاز من الوزير القطري تم إرسال لجنة تتقصى الحقائق عبر بعثتها العربية الى سوريا والتي ما زالت بصدد إتمام مهمتها؟ إذاً لماذا الإستعجال والدعوة الى الحرب قبل أن تنهي البعثة مهمتها؟
هل إنقلب السحر على الساحر أم أنّها عملية إستباق للنتائج التي تبدو في غير صالح مشروع الحرب الذي تُسوّق له الإمارة؟ لماذا إذن تذرف دموع التماسيح على “الأبرياء” وتتحجج قطر بنجدة المدنيين، وهي التي تجيش الجيوش لمزيد من إراقة الدماء والقتل؟ أولي أمرنا، رجاءً، لا تنهوا عن خلق وتأتوا مثله، عار عليك إذا فعلتم عظيم.
ألم تخبر المراكز البحثية والجامعات العالمية، التي نسمع بوجودها في قطر، الأمير والوزير عن خطأ سياستهم وكارثيتها، أم أنّها مجرد مراكز أبحاث “فشنك” للزينة والبهرج، أي أننا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا، أم أنّ حكام قطر هم من الزعامات الجديدة-القديمة ممّن إذا طَبَّلُوا لهم رقصوا؟ فرغم الهيل والهيلمان يبدو أنهم كزعامات أحمد فؤاد نجم في قصيدته التي قال فيها فيهم: “جرانين ومنابر وإدارة ومعلّق طبلة وزمارة”.
أظنّ أن حكام الإمارة لم يفعلوا ما فعلوا إلاّ لأنهم يعتقدون أنهم يخاطبون مجموعات من الحمقى والمساطيل، وإلاّ ما كانوا تجرأوا كل هذا التجرّؤ. لكن ليتأكّدوا أن الأمر ليس كذلك، وأن الألاعيب لن تنطلي.. ولقد إنكشفت خيوط الأحبولة والشَرْك الذي نصبوه لاخوتهم، وإذا عُرف السبب بطل العجب.
انها ليست إلا سياسة العبد المأمور، التي سيعود منها أصحابها بِخُفَّىِ حُنين.
سُكُوت ح إنْزَوَّرْ: سقوط ورقة التوت
لم يعد يخفى الآن على أحد، سياسة التضليل والتزوير التي تمارسها دوائر عرّابي الحروب، ولم تعد تنطلي الدعاية الضالة المضللة ودموع التماسيح التي تذرف على أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري إلا كونهم كانوا مواطنين في أوطان دبُّرت لها المؤامرات بليل دامس أظلم ظُلمة القلوب التي لم تردعها حرارة الدماء التي لا تزال تسفك على مذبح خطيئة حكام الخزي والعار. لقد أيقن بعض قادّة المنظومة الخليجية أنّ ما قد يحصل في سوريا قد يكون شبيها بما حصل في العراق والذي يعتبرونه كارثيا بكل المقاييس خاصة على المنظومة الأمنية للمنطقة ويعترفون أنّ اختياراتهم الإستراتيجية كانت خاطئة.
وفي هذا الصدد، وحسب موقع “العربية.نت”، يقول الأمير السعودي تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، في محاضرة بعنوان “تحديات الأمن الإقليمي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية” ألقاها في مؤتمر “الأمن الوطني والأمن الإقليمي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية.. رؤية من الداخل”، والذي نظمه مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة في الفترة مابين 17 إلى 18 كانون الثاني (يناير) الجاري والذي إفتتحه يوم الثلاثاء الماضي الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، نائب رئيس مجلس الوزراء البحريني، لاحظ الأمير تركي الفيصل، في مداخلته، أنّ التحدي الأكبر هو الأمن الأقليمي، ورغم أهمية المنطقة دوليا كونها مصدر للطاقة يرى أنّ الأمن يجب أن يكون مسؤولية أهلها وبهذا يوضّح بما لا يدعو مجالا للشك أنّ المنطقة كانت ترتكز أساسا على الحماية الخارجية التي لم تكن تهتم إلاّ بمصالحها وامتيزاتها في المنطقة.
وفي هذا الصدد، أكّد الدكتور محمد عبدالغفار مستشار ملك البحرين للشؤون الدبلوماسية، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة بخصوص وضع الإستراتيجيات، أنّ “معظم الاستراتيجيات قد صُنف من قبل باحثين أجانب انصبت، جهودهم على تحليل مسائل متعلقة بأمن الخليج وتطوير مفاهيم أمنية، لا تضع في الاعتبار بالضرورة رؤى ومصالح دول مجلس التعاون”. كما أضاف الأمير تركي الفيصل أنّ الإعتماد على الخارج لم يخلف إلا الحروب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة كما شدّد على ضرورة تحَصينَ الجبهة الداخلية وإصلاح الاقتصاد ليكون وطنيا يجني ثماره الشعب، وترسيخ المواطنة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، ثم إعترف الامير بخطأ غزو العراق الذي قال أنّه أخلّ بالمنظومة الأمنية في المنطقة الخليجية والعربية برمتها.
لقد تهاوت كل المنظومات الخليجية والعربية الواهية وإنكشف الزيف، الذي كان يمارس سياسيا وإقتصاديا، وسقطت ورقة التوت بعد ظهور الحقيقة التي تم الاعتراف بها علناً، فهل يكون ذلك إنطلاقة جديدة للمنطقة لتتكتل في جبهة داخلية وتعتمد على قواها الذاتية وتنبذ الإستراتيجيات الخارجية التي، كما إعترف الأمير تركي، لم تُورّث إلاّ الحروب والكوارث، أم أنّ قُوى الرجعية والشد إلى الخلف لا زالت فاعلة وأنّ هناك مجال لإستمرار التزوير للإرادات والحقائق؟
نعم، للأسف الشديد يتواصل التزوير والتزييف (عيني عينك) دون توقف، فإن كان فاعله لا يدري بخطورة ما يفعله فتلك مصيبة وإن كان يدرى فالمصيبة أعظم.
في النهاية، لا يسعنا إلا أن نقول لدعاة الحروب ومزوري حقائق تاريخ الشعوب، ما قاله الشاعر العربي الشامي ابو فراس الحمداني:
يا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا
أيا قومنا لا تقطعوا اليـد باليد
ظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
فيـالـيت داني الرحم منا ومنكم
إذا لم يقـرّب بيننـا لم يـبعد
كما نقول للقابضين على الجمر من أبناء شعبنا الآملين في غد لا يسمع فيه دوي المدافع والرشاشات:
صبرا آل يعرب، ضاقت فلمّا إستحكمت
حلقاتها فُرجت وقد كنّا نظنّها لا تُفرج.
Leave a Reply