مريم شهاب
نحنا ما عنا حجر، لا مزارع ولا شجر
إنت وأنا يا حبيبي بيكفـينا ضو القمر
منذ زمن بعيد توقفت عن التفكير بنفسي، صار الهاجس أولادي ثم أولادي. مشاعري لم تقوَ عليها الايام، وكلما ذويتُ، صارت شعلة الأولاد هي الأهم. هم سر البقاء والأمل بالآتي والغصون التي تتجدد براعمها، وفـي أعماقي دعوات وصلوات الأمهات الخائفات من غدر الزمان: «الله يبعثلكم أيام حلوة».
أتذكر هذا الدعاء بعمق عندما أردده لأولادي، ولحفـيدي الصغيرين، كلما تسلل الخوف على أيامهم إلى صدري. هل سيبعث الله لهم أياماً أجمل من أيامنا؟؟ نحن الذين خسرنا الأرض قطعة قطعة، وخسرنا البيوت والرضى وخسرنا الفرح والعدالة والكرامة، واضطرتنا المآسي والآلام والحروب للهجرة، ليتجنب أولادنا ما عانيناه، وأمنية غالية لهم بأن يعيشوا فـي أرضٍ لا تُسرق ولا تحتل ولا تغتصب وبيوتاً لا تخلع أبوابها ولا تحرق وقرى لا يدّنس طهرها الزعران والمغامرون والعابثون بحرمة الوطن.
منذ أسبوعين كنت فـي فلوريدا لزيارة إبنتي وعائلتها. ولأنها تعرف شغف الحنين لقريتي برعشيت فـي جنوب لبنان، أخذتني وأولادها لنزور بلدة «سانت أوغسطين»، أول أرض وطأها المستعمرون الأسبان عند تخوم المحيط الهادي. خلال جولتنا فـي بلدة سانت أوغسطين، وجدتها فرصة مناسبة للتحدث مع حفـيدتي ميا (تسع سنوات)، عن الضيعة والقرية بعيداً عن «العوازل» الآيباد والآيفون الذي يعزل الأولاد عن جدتهم وأهلهم. ونحن نمشي فـي البلدة الصغيرة وشوارعها الضيقة قلت للحبيبة «ميّا»، فـي مثل هذه القرية الصافـية كنا نعيش. كانت القرية هي المكان والقرويون كانوا صورة الزمان. قمر وحصاد وكروم وخير فـي الانتظار. قناديل تضئ أنوارها الشاحبة البيوت الهادئة الدافئة بناسها والجيران والمحبين. لا ضوء فـي الليل سوى القمر. حدثتها عن البيادر والشحارير والكوارة وخلة العين والسحاري والمرج والكروم وقطعان المواشي والدجاجات والقطة العمياء التي أخذناها إلى مدينة صور لنتخلص منها والتي عادت بعد أيام. كانت ميا تسمع وأحياناً تستغرب وكأني أحكي لها حكاية. ليست حكاية يا حبيبتي الصغيرة، إنها القرية الماضية البسيطة بدون آيباد وآيفون. الضيعة البكر التي لا يعرفها هذا الجيل الجديد فـي الغربة. أحياناً كانت «ميّا» تلهو وتبتعد عني لأخذ صورة هنا وصورة هناك، وفـي أعماقي صوت يسألني: هل سيبعث الله أياماً أجمل من أيامك لأحفادك؟؟
كتمت غصة حارقة فـي صدري، رغم كل مظاهر الحداثة والتكنولوجيا التي تحاصرهم هنا فـي أميركا. مظاهر فـي داخلها خواء وفراغ. فراغ من البراءة وخواء من الإنسانية. فـي طفولتي كان لنفسي مكانٌ فـي لبنان. رغم البساطة والتعب والفقر، كان كل شئ أرحم وأطهر والأرض كانت أرحب، ورغم صغر القرية كانت فـي لبنان أمكنة كثيرة جميلة وعريقة. أما جيل أحفادي فلا مرقد عنزة لهم فيه. لا أحب أن أعيش إلى وقت قد يعاتبني أحفادي بحزن وشفقة؛ ماذا فعلتم بأنفسكم وماذا فعلتم بنا؟؟ لماذا كل تلك الحروب والنكبات والمعارك؟؟
سألني أحد المهاجرين الجدد قائلاً أريد رأيكِ، إبني كان فـي سنته الجامعية الأخيرة فـي بيروت وقد جاءنا إلى ديربورن فـي إجازة، لكنه يرفض العودة إلى لبنان. يقول إن الحرم الجامعي الجميل صار مربعات للكره والحقد والتعبئة. وإبني خائف، فماذا أقول له؟ قلت له: أطلب منه العودة إلى جامعته. يجب أن يبقى فـي لبنان جيل من الشباب، ذوي القلوب والمشاعر. أليس معيباً يا صديقي أن
يشجّع بنيامين نتنياهو الصهاينة ويزين لهم الهجرة إلى «إسرائيل»، بينما «المسائيل» (جمع مسؤول) المتعالين فـي لبنان يتمنون هجرة الجميع منه ليريحوا ويرتاحوا.
Leave a Reply