أطفأ أصحاب المبادرات الداخلية في لبنان لإنتاج حل محلي محركاتهم، وكان آخرهم الرئيس نبيه برّي الذي أطلق في ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر مبادرة تقوم على انعقاد طاولة الحوار، يتّفق أعضاؤها على شكل الحكومة، وعلى عناوين سياسية ليست موضع خلاف، وعلى حلّ قضايا المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، لكن اقتراحاته هذه ذهبت أدراج الرياح، حيث لم تنفع جولات الوفد النيابي الذي شكّله من «كتلة التنمية والتحرير» على الكتل النيابية في تحريك الجمود السياسي والوصول الى توافق داخلي، وقد دُفنت مبادرته في مهدها، ولم تصل الى قصر بعبدا، الذي انقطعت فيه جلسات الحوار و لم يوفق رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بإعادة الروح إليها وتفعيلها، وكل ما استطاع أن يفعله، أنه حصل على موافقة الجالسين معه حول طاولة الحوار، على «إعلان بعبدا» الذي يدعو الى تحييد لبنان عما يجري في سوريا، وعن صراع المحاور الإقليمية والدولية، وهو ما لم يطبّق، لأنه بعد نشره، حصلت تطورات في سوريا غيّرت من قواعد اللعبة، فدخلها «حزب الله» مقاتلاً، وكان سبقه «تيار المستقبل» داعماً سياسياً وإعلامياً ومالياً، غاضاً النظر عن مشاركة مقاتلين من «بيئته السياسية والمذهبية» في القتال ضد النظام السوري.
جانب من استعراض عسكري لـ«حزب الله» (أرشيف) |
فلبنان وضع في ثلاجة انتظار تطورات ما يجري في سوريا، وقد رُبطت ازمته بأزمتها، كما أنه متروك على رصيف «مؤتمر جنيف السوري»، الذي حُدّد موعده في 22 كانون الثاني القادم، وقد استبشر خيراً بإنتهاء «مؤتمر جنيف الإيراني» الى إتفاق طهران مع الدول الست (5+1) المعنية بمتابعة الملف النووي الإيراني الذي أعطي مهلة ستة أشهر كفترة إختبار لإلتزام إيران ببنوده التي حدّدت سقف التخصيب النووي بما يخدم البرنامج السلمي لإنتاج الطاقة ومصادر أخرى تحتاجها في مسائل طبية وتنموية وبحثية وغيرها. ولبنان كان ساحة احتراب لسياسات خارجية، كان يرتبط بها بأطرافه السياسيين، وكانت التسويات تأتي على أثر انتهاء الصراعات الإقليمية والدولية، حيث كانت حروبه الداخلية المفتعلة من طوائفه وزعمائها، أو من نزاعات لمصالح أمم على أرضه، وهذا ما حصل عندما انفجرت حربه الأهلية عام 1975، بسبب الصراع العربي-الإسرائيلي بشقه الفلسطيني، ولإنعكاس الحرب الباردة عليه بين القطبين العالميين آنذاك أميركا والإتحاد السوفياتي.
وينتظر اللبنانيون الإنفراجات الإقليمية والدولية، ليتم الإفراج عن حلول لأزمتهم التي اصطنعوها لحساب الآخرين، وربطوا بها تشكيل الحكومة، وإنتخابات رئاسة الجمهورية والإنتخابات النيابية المؤجلة.
فبعد توقيع الإتفاق الإيراني مع الدول الغربية، حول البرنامج النووي، بدأ السؤال حول تأثيره على الداخل اللبناني سلباً وإيجاباً، إذا ما تمّ الإلتزام بتطبيق بنوده، ويبدو أنه سيسلك طريقه الى التنفيذ لحاجة الطرفين إليه، الجمهورية الإسلامية الإيرانية لفك الحصار عنها وإلغاء العقوبات واستعادة أموالها المحجوزة في أميركا، وتعزيز دورها الإقليمي، كما أن واشنطن تريد إقفال ملف أتعبها، بعد أن أغرقتها حروبها الاستباقية في أفغانستان والعراق، بأزمة مالية لم يشهدها تاريخها، وهي مع الدول الخمس في مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا، يتطلّعون الى أن لا تحصل حروب جديدة في العالم، وهو ما وعد به الرئيس الأميركي باراك أوباما شعبه أنه لن يجرّه الى حرب جديدة مكلفة.
والإتفاق الذي شنّت إسرائيل هجوماً عليه، وهدّد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أنها غير معنية به، وسيواجهه لأنه أعطى إيران اعترافاً بأنها دولة نووية، وكبّر من دورها وحجمها الإقليمي، وهو ما يرتب له انعكاسات إذا ما استمرّ «حزب الله» يتسلّح في لبنان وتحديداً من إيران.
ولقد بدأ الحديث عن هل يكون ثمن الإتفاق رأس «حزب الله» في لبنان، بوقف تسليحه وإسقاط استمراره تنظيماً مقاوماً، أوأنه يتحوّل الى «حزب سياسي» بحل جناحه العسكري الذي صدرت عقوبات أوروبية بحقه، وهو المصنّف إرهابياً في أميركا، ويتحقّق ما هو مطلوب منه منذ سنوات، وفق ما يتداوله فريق «14 آذار» المناوئ لـ«حزب الله» والذي يدعوه الى تسليم سلاحه الى الجيش اللبناني، ليشاركه في الحكومة، حيث يؤكّد سياسيون في هذا الفريق، أن «حزب الله» انتهى دوره في لبنان، لأنه كان أداة بيد إيران تستخدمه للتفاوض على ملفها النووي، أما وقد انتهى لصالحها كما يعلن مسؤولوها، فإن لا حاجة لسلاح «حزب الله»، الذي تمّ تعطيله منذ صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي لوقف الأعمال العسكرية بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006.
هذا ما يستنتجه فريق «14 آذار» ويقرأ في الإتفاق الإيراني- الغربي، و لا يرى فيه انتصاراً لإيران ومحورها، وأن سلاحين خرجا من الصراع مع العدو الإسرائيلي، الكيميائي السوري والنووي الإيراني وتبقى صواريخ «حزب الله» المعطّلة، إلا أن ما تستخلصه «14 آذار»، لا يوافق عليه «حزب الله»، الذي لا يربط بين وظيفة سلاحه، والبرنامج النووي الإيراني، لأنه ربط خاطئ وقائم على تحليل خاطئ، إذ أن الإتفاق أكّد على سلمية البرنامج النووي متأخراً، وأن أميركا والغرب كانوا يستخدمونه ضد إيران لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ليس مرتبطاً بالمقاومة، ويعود تاريخه الى عقود منذ أيام حكم الشاه رضا بهلوي، وجاءت «الثورة الإسلامية» لتستكمله، وهذا ما أثار غضب إسرائيل التي في الوقت الذي تصوّب فيه على النووي الإيراني وتخوّف منه، فإنها كانت تبحث عن مصير سلاح المقاومة وتحديداً ترسانتها الصاروخية، وقد أكّدت طهران وعلى لسان مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، أن لا تطمينات لإسرائيل بموضوع المقاومة التي ستبقى وتستمر من ضمن الإستراتيجية الوطنية الدفاعية عن لبنان.
وتبقى مسألة أن الاتفاق الإيراني البحت مع الدول الست، عزّز مكانة الجمهورية الإسلامية في المنطقة، وأغضب السعودية التي لم تقرأ لعبة مصالح الأمم، وقد هالها أن حليفها الأميركي يحاور إيران، وباتت تخشى أن يكون ذلك على حسابها ودورها، حيث سارعت طهران الى طمأنتها، وكتب وزير خارجيتها محمد جواد ظريف في إحدى صحفها «الشرق الأوسط» مقالاً يؤكّد فيه على حفظ الجار، وهي رسالة تفيد أمن الخليج والمنطقة إذا ما تعاطت معها السعودية بإيجابية، وهي غيّرت لغتها من الإتفاق الإيراني-الغربي، بعد أن تصرّفت معه بسلبية، وتراجعت لتتحدّث عنه بايجابية ولو بحذر ، بعد ان رأت أن دولاً أخرى في مجلس التعاون الخليجي قد رحّبت بالإتفاق واعتبرته خطوة متقدمة كقطر والإمارات والبحرين وسلطنة عمان والكويت، وهو ما وضع السعودية في حالة من العزلة بين دول مجلس التعاون، وبعيدة عن الموقف الدولي الجامع حول الإتفاق، و باتت هي وإسرائيل في الموقع والموقف نفسه منه، مما تركها تتراجع وتعيد حساباتها، وهو ما نظر إليه الإيرانيون بإيجابية وقد أبلغوا الرئيس برّي الذي صودفت زيارته الى طهران في اليوم نفسه لتوقيع الإتفاق، أن القيادة الإيرانية حريصة على التعاون مع السعودية، وأن رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني قرّر زيارتها وهو أرجأها لإنشغاله بملف المفاوضات حول البرنامج النووي، وأن التوجّه هو نحو جعل الخليج آمناً، وأن مَن كان يحرّض على إيران هم الأميركيون والإسرائيليون من خطر البرنامج النووي على دول الخليج، وقد تبيّن أن هذا غير صحيح كما قال المسؤولون الإيرانيون للرئيس برّي الذي أبلغهم، أنه صاحب مقولة «س-س» أي اتفاق سوريا والسعودية على حل الأزمة في لبنان،وتم ذلك وحصل انفراج عام 2009 وتشكلت حكومة برئاسة سعد الحريري واليوم يطرح شعار «أ -س» أي التفاهم الإيراني- السعودي، لينعكس ذلك على لبنان، والذي من دونه سننزلق نحو حرب أهلية مدمّرة، وستكون الفتنة السّنّيّة-الشيعية أخطر ما سنشهده، وأن التفجير أمام السفارة الإيرانية، هو أمر خطير جداً وتطور في إطار تسعير الصراع السّنّي-الشيعي، وأن مفتاح الحل هو بالإتفاق السعودي-الإيراني.
فهل يكون الإتفاق الإيراني–الغربي الذي وصفه الرئيس بري بصفقة العصر، فاتحة لتوافق إيراني-عربي يؤسّـس لمرحلة جديدة في العلاقات بين الطرفين، يعترف بهما الواحد للآخر بمصالحه، فلا تخويف من «نفوذ فارسي»، ولا تحذير من «تمدّد شيعي»، ولا تسويق لحلف «عربي- إسرائيلي» ضد إيران، ولا إستهداف للشيعة من قبل السّنّة… ولا إستعادة للحرب العراقية-الإيرانية بنسخة خليجية.
إن توافق إيراني-عربي مستند الى إتفاق إيراني-غربي، يؤسّـس الى سلام في المنطقة والعالم وينهي صراعاً تمّ تأجيجه بين السّنّة والشيعة، وأن الرابحين هم الجميع كما وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الإتفاق، وأن لبنان سيكون رابحاً أيضاً من هذا الإتفاق ومن غيره إذا شمل السعودية وإيران.
Leave a Reply