طارق عبد الواحد – «صدى الوطن»
ما إن تدخل المبنى «السكني» الواقع على 1821 شارع وايومينغ بمنطقة ديكس جنوبي ديربورن، حتى تشعر بالانقباض وضيق النفس، من بؤس وقذارة المكان المتهالك التي يقطنه ما يزيد عن عشرين شخصاً من المرضى وكبار السن، وسط ظروف تعيسة ومتردية، أقل ما يقال عنها إنها لا تصلح للعيش الآدمي.
جولة قصيرة في المبنى المكون من طابقين، كفيلة بإيقاع شعور ثقيل بداخلك، من الصعب تبديده أو تجاهله، لدرجة تمكنك من وصف المبنى، وبدون أدنى مبالغة، بأنه أحد مباني أحزمة البؤس في أكثر البلدان تخلفاً وفقراً، فما بالك إذا كان واقعاً في مدينة ديربورن التي تجتهد بلديتها في ملاحقة المخالفين لقوانينها ومراسيمها البلدية، والتأكد من أن سكان المدينة وأصحاب الأعمال التجارية فيها يلتزمون بالمواصفات الفنية التي تراعي الأمان والسلامة والصحة العامة.
مبنى بطابقين، في كل طابق 13 غرفة صغيرة، جميع سكانها من العرب، وبحمّامين لجميع المستأجرين الذين يقارب عددهم 26، ومطبخ واحد في المبنى بأكمله. ممر داخلي قذر. نوافذ مخلعة. جدران مهترئة. نظام تدفئة قديم ومتهالك. بعض السقوف ترشح ماءً. الدفع «كاش» وبدون فواتير رسمية، ولا دليل على أن أصحابه يستثمرونه، و«اللي ما عجبو، الباب بيفوّت جمل»، بحسب ما قال أحد المستأجرين لـ«صدى الوطن».
وما يزيد الطين بلة، هو أن المستأجرين المحدودي الدخل، والمدقعي الفقر، يتحاملون على أنفسهم لتقبل ظروفهم الضنكة، والرضا بما كتبهم الله سبحانه وتعالى عليهم، لكن ذلك لا يعفيهم من سوء معاملة الإدارة المشرفة على البناء المتقادم، والتي تضرب مطالبهم وشكاويهم بعرض الحائط، و«اللي ما عجبو، يترك غرفته، أو يروح يشتكي للشرطة أو المحكمة».
بعض السكان باتوا غير قادرين على تحمل بق الفراش وسائر أنواع الحشرات المنتشرة في جميع الأرجاء، أو رشح الماء من السقوف والجدران، أو الأعطال في النوافذ والأبواب. وفي نفس الوقت، ملّوا من التوسل للإدارة بتلبية مطالبهم، فبادروا –مراراً وتكراراً– إلى الاتصال ببلدية ديربورن، بحثاً عن المساعدة، ولكن البلدية «أذن من طين، وأذن من عجين»، كما يقول المثل الشعبي.
محمد، لبناني في الستين من العمر، خضع في السابق لعملية قلب مفتوح، وبترت بعض أصابع قدميه بعد إصابتها بالغرغرينا. كما أصيب بالمرض الخبيث وشفي منه بعد خضوعه لعدة جلسات إشعاعية. هو أحد المستأجرين الذين ضاقت بهم الدنيا بما رحبت، فلجأ إلى «صدى الوطن»، كملاذ أخير، بعدما عانى الأمرين من غياب البلدية وتجاهل الإدارة لمطالبه بتصليح الأعطال في غرفته الضيقة.
ورداً على اتصاله، قمنا بزيارة المكان حيث أطلعنا على معاناته عن كثب. شباك غرفته مكسور، فجوة كبيرة في الجدار والسقف ترشح ماء طوال الشتاء، والإدارة متسلطة ومتعجرفة، وتطرد كل من يشتكي من عيوب البناء أو قذارته.
هل اتصلتم بالبلدية؟ سألناه. فأجاب: «لقد اتصلنا عدة مرات، ولا أحد يرد علينا»، وأضاف متسائلاً: «أليس من واجب البلدية أن تفحص المباني والمنازل التي تُؤجر، حتى تتأكد من صلاحيتها للعيش.. لا أحد يحس بنا وكأننا في عالم آخر».
ولماذا لا تطالبون الإدارة بإجراء الإصلاحات؟ «لقد قمنا بذلك، مرات ومرات» كان جوابه، وأضاف: «من يشتكِ يطردوه، لقد طردوا أكثر من شخص، خلال الشهور الفائتة».
طلبنا منه التحدث إلى مستأجرين آخرين، لمعرفة ما إذا كانت لديهم مشاكل مماثلة، ودخلنا إحدى الغرف، فوجدنا شخصاً جالساً على كرسي يحملق في الفراغ. تحدثنا معه، ولكنه لم يرد. قال محمد: «إنه عاجز ويعيش وحيداً، ولكن انظر إلى غرفته».
كانت تلك الإشارة كافية لمعرفة أن معظم المستأجرين يعيشون في ظروف مذّلة.
والتزاماً بالمبادئ الصحفية، طلبنا من محمد إمدادنا برقم المشرف على المبنى لكي نتحدث معه، ونقف على رأيه ووجهة نظره، بشكوى المستأجرين. والمفاجأة الصادمة، لم تكن برفضه التحدث إلينا، فهذا حقه في جميع الأحوال، ولكنها كانت في تنمّره علينا، وطردنا من المبنى، قائلاً: «من سمح لكم بالدخول؟ اخرجوا». شرحنا له الموضوع وبأننا لسنا طرفاً في المشكلة، فكان كل ما قاله: «روحوا اشتكوا للشرطة!»، ثم التفت نحو الرجل الستيني ونهره كمن ينهر أحد عبيده، قائلاً: «وأنت، محمد، ادخل إلى غرفتك، وإذا لا يعجبك العيش هنا، اخرج من المبنى».
ذلك الموقف، بدا دليلاً واضحاً على صلافة المشرف على المبنى، الذي لا يكلف نفسه حتى عناء التعامل بإنسانية أو رحمة مع المستضعفين والمرضى وكبار السن الذين يطالبون بتحسين شروط إقامتهم ولو في الحدود الدنيا. أما الأمر الأكثر إثارة واستفزازاً، فقد كانت وقاحته وبلطجته.. إذ كان الرجل على وشك التهجم علينا، لولا أن الأمور سلكت مسلكاً آخر!
Leave a Reply