نبيل هيثم – «صدى الوطن»
ثمة ملاحظات مثيرة للانتباه فـي العمليات الإرهابية التي هزت قلب أوروبا الأسبوع الماضي.
ليس الحديث هنا عن تمدد «داعش» وقدرته المتنامية على الخروج من دائرة الإرهاب التقليدية فـي سوريا والعراق.. او حتى فـي مصر وليبيا واليمن وتونس، لتطال تهديداته المتصاعدة أوروبا على امتدادها، وصولاً الى الضفة الغربية من المحيط الاطلسي، أي الولايات المتحدة، فهذه مسألة باتت محسومة منذ نجاح التنظيم الإرهابي المتشددة بتسديد اشد ضرباته وحشية فـي قلب العاصمة الفرنسية فـي تشرين الثاني الماضي، ضمن إطار ما بات يعرف بـ«11 أيلول الأوروبي».
الملاحظات التي تثيرها تفجيرات بروكسل تكمن فـي مكان آخر، وهو أنقرة والرياض، اللتين لا يشككن أحد فـي أنهما باتتا الراعيتين الرسميتين للإرهاب.
فـي خطاب بثه التلفزيون التركي يوم الثالث عشر من آذار، فـي الذكرى الحادية بعد المئة لمعركة غاليبولي، قال رئيس الوزراء التركي رجب اردوغان حرفـياً: «لا ضمان على أن قنبلة أنقرة لن تنفجر فـي بروكسل»، متوجهاً الى الأوروبيين بالقول «إنكم تحتضنون أفعى، لكنها قد تلدغكم فـي أي لحظة. ستفهمون عندما ستنفجر عبوات ناسفة فـي مدنكم، ولكن بعد فوات الأوان».
هكذا «تنبأ» أردوغان بتفجيرات بروكسل قبل أربعة ايام من وقوعها!
ليس الأمر نتاج «سر إلهي» منحه الله لأحد أوليائه الصالحين، فالأمر هنا لا يدور عن نبوءة أردوغانية، بقدر ما هي رسالة واضحة للأوروبيين بشكل خاص، وللغرب بشكل عام، مفادها أن الضغط على نظام «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي سيجر عليهم الويلات.
ولعل فـي توقيت «النبوءة»-التهديد دلالات كبيرة.
ترميغ أنوف الأوروبيين
أولاً، جاءت تصريحات أردوغان فـي ذكرى معركة غاليبولي، وهي معركة ذات اهمية بالغة الرمزية فـي التاريخ العثماني، لكونها مثلت احدى محطات النصر القليلة للسلطنة العثمانية فـي الحرب العالمية الأولى. الحديث هنا يدور عن معركة دارت فـي شبه الجزيرة التركية خلال العام 1915، أي فـي بدايات الحرب العالمية الاولى، حين قامت قوات فرنسية وبريطانية بعملية مشتركة لاحتلال اسطنبول، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وقد قتل فـيها ما يقرب من 55 ألف جندي من قوات الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، استراليا، ونيوزيلاندا)، وحوالي 90 ألف جندي عثماني. ومن الجدير ذكره، ان هذه المعركة الشهيرة كان الهدف منها، علاوة على احتلال اسطنبول، فتح خط امداد فـي الجزء الشمالي الشرقي من تركيا لمساندة روسيا ضد القوات الألمانية. وبرغم أن الحرب العالمية الاولى قد انتهت الى سقوط الخلافة العثمانية، إلا ان الاتراك ما زالوا يعتبرونها من بين الملاحم التي مرغت أنف الأوروبيين فـي الوحل.
ولا شك فـي أن التقارب الروسي-الغربي الأخير بعد الانسحاب الروسي الجزئي من سوريا، والتفاهمات النادرة بين موسكو وواشنطن بخصوص الازمات الملتهبة، بدءاً بسوريا وصولاً الى أوكرانيا، لا تبعث على الاطمئنان بالنسبة الى المقيم بالقصر الأبيض فـي أنقرة، وبالتالي لا بد من ان يكون اول من توجه اليه أصابع الاتهام.
ولا بد هنا من الاشارة الى تصريحات غريبة أدلى بها مسؤول الاجهزة الامنية الاوكرانية، الذي المح الى دور روسي فـي تفجيرات بروكسل، وهو ما استدعى رداً حاداً من رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفـيديف الذي وصف هذا الرجل بأنه «معتوه».
وليست تلك تفصيلة يمكن تجاوزها فـي معرض الحديث عن تفجيرات بروكسل، فمعروف ان ثمة نقاط التقاء عدّة بين النظام اليميني-الفاشي فـي أوكرانيا، وبين تركيا، إن لجهة العداء المشترك لروسيا، أو لجهة علاقات التنسيق الامني والاستخباراتي المستمرة مع الكيان الاسرائيلي.
وليست مصادفة أن يتبارى قادة الكيان الصهيوني فـي الشماتة بالأوروبيين، حتى أن احدهم بادر بعد ساعات على وقوع التفجير الى السخرية من الاتحاد الأوروبي قائلاً إنه يركز على مقاطعة المستوطنات بدلاً من حماية مواطنيه من الإرهاب!
أزمة
ثانيا، جاءت تفجيرات بروكسل، بعد يومين على نذر ازمة ديبلوماسية بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، أي بعدما احتج نظام أردوغان على السماح لمناصري «حزب العمال الكردستاني» بنصب خيمة أمام مقر الاتحاد الأوروبي فـي العاصمة الأوروبية، كتحرك احتجاجي على آلة القمع التركية الملطخة بدماء الاكراد من ديار بكر وجبال قنديل وصولاً الى «روج-آفا» فـي الشمال السوري.
ولا شك أن ربط اردوغان بين الإرهاب «الداعشي» و«الإرهاب الكردي» فـي معرض التعليق على احداث بروكسل، يأتي فـي سياق تحريضي على الأكراد، خصوصاً بعدما بات «روج آفا»- شمال سوريا يشكل مصدر خطر على الامن القومي التركي، غداة اعلان الفدرالية الأخير.
وكان أردوغان واضحاً فـي ذلك، حين قال «إنني على ثقة بأنّ السياسة العالمية، إن اتفقت بشأن مكافحة الإرهاب، فإننا نستطيع حل هذه المسألة، لذلك فإنّ العالم ملزم بإعادة تعريف الإرهاب والإرهابي»، فـي ما يعني بشكل او بآخر ان تركيا قد تكون المستفـيد الاول من تفجيرات بروكسل، وهذا يطرح بطبيعة الحال فرضية ان يكون نظام اردوغان هو المسهّل لهذه الاعتداءات الإرهابية.
محاولة مكشوفة
ثالثاً، كان ملفتاً ان اردوغان استبق رد الفعل الأوروبي على جريمة بروكسل، وارتداداتها المحتملة على تركيا، بمحاولة ابراء ذمته، بشكل مفضوح، عبر الكشف عن ان السلطات التركية كانت قد ألقت القبض على أحد منفذي تفجيرات بروكسل فـي العام 2015.
ومما قاله أردوغان فـي هذا الاطار: «كنا قد ألقينا القبض على أحد منفذي هجمات بروكسل فـي غازي عنتاب (على الحدود التركية- السورية) فـي حزيران العام 2015، وقمنا بترحيله، إلا أن البلجيكيين أخلوا سبيل الشخص المذكور، فبلجيكا لم تستطع تحديد ارتباطه بالإرهاب، رغم تحذيرنا بأنه مقاتل إرهابي أجنبي».
ولعلّ اردوغان هنا يدين نفسه من فمه، مؤكداً كل الاتهامات التي وجهت لتركيا خلال الفترة الماضية بشأن رعايتها للإرهاب، وخصوصاً لجهة تحويله البلاد الى نقطة عبور للجهاديين الى سوريا، أو من سوريا الى أوروبا والقوقاز، وهو ما لم يعد سرّاً على أحد، خصوصاً بعدما فضحت روسيا تجارة النفط «الداعشي»، فكان الرد التركي بإسقاط طائرة «السوخوي»، وهي الحادثة التي اتت بعد يومين فقط من تصريح الرئيس فلاديمير بوتين، خلال قمة مجموعة العشرين فـي انطاليا، من أن «بعض الدول المشاركة فـي هذه المجموعة، أو واحدة منها على الأقل، تساهم بشكل مباشر فـي دعم الإرهاب».
إبحث عن المصدر
ولكن حلقة الادوار الخفـية للانظمة الراعية للإرهاب، والتي سهّلت بشكل أو بآخر هجمات بروكسل، وقبلها باريس، لا تكتمل من دون السعودية.
وبصرف النظر عن ان مملكة آل سعود اصبحت بنظر القاصي والداني هي الراعية الايديولوجية للإرهاب «الداعشي» و«القاعدي» الى آخر تلك التسميات «الجهادية»، إن لجهة تصدير الفكر الوهابي، أو لجهة فتح صناديق المال الخفـية لتمويل المجموعات الإرهابية، فإنه ليس من قبيل المصادفة ان العلاقات التركية-السعودية، تحافظ على زخمها، ولم تتأثر بسعي النظام الأردوغاني الى الاستحواذ على حصة كبرى فـي النفوذ الاقليمي فـي مرحلة ما بات يعرف بـ«الربيع العربي».
وليس من قبيل المصادفة ايضاً، ان العلاقات السعودية-التركية لم تتأثر بمختلف القضايا الاقليمية الخلافـية، بدءاً بالتناقض فـي مسألة دعم «الاخوان المسلمين»، مروراً بالموقف من النظام الجديد، برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي، والذي افرزته «ثورة 30 يونيو»، وصولاً الى التوافق الغريب على هدم الدولة السورية، عبر تقاسم ادوار فـي ما يتعلق بتنظيمات مسلحة، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«جيش الاسلام» و«جيش الفتح»… الخ، لا بل التلويح بالتدخل العسكري المباشر فـي الشمال السوري، فـي إطار خطة جرى الإعداد لها، منذ بدء «عاصفة السوخوي»، وجاء الانسحاب الروسي الجزئي الاخير من سوريا ليضع حداً لها.
اكتمال المثلّث
وليست مصادفة كذلك، أن تشهد الفترة الماضية تقارباً مزدوجاً بين الطرفـين وبين اسرائيل. فمن جهة، يبدو ان تركيا تميل الى تصفـير مشاكلها مع الكيان الاسرائيلي الناجمة عن حادثة السفـينة مرمرة، ومن جهة ثانية لا شك فـي ان الحملة السعودية المستعرة ضد «حزب الله» تأتي فـي سياق تقديم أوراق اعتماد لتل أبيب.
هكذا يكتمل مثلث الإرهاب، السعودي-التركي-الاسرائيلي، بانتظار تحوّلات معينة قد تحملها الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي تزداد ضراوة، بعد كل تفجير يحدث فـي أوروبا، او بعد كل مبادرة «داعشية» من شأنها أن تفرض تأثيرها على مزاج الناخبين الاميركيين، وعلى السياسة المعلنة لهذا المرشح الرئاسي أو ذاك.
ولكن مثلث الإرهاب لا يدرك أن الاستعانة بالجماعات التكفـيرية قد يفتح صندوق الشرور. وعلى هذا الاساس، فقد بدأت تركيا تتجرع من الإرهاب الذي طالما تدعمه فـي مصر وسوريا وليبيا بالمال والسلاح وبالغطاء السياسي، وهو ما تؤكده العمليات الانتحارية الاخيرة التي ضربت انقرة واسطنبول. وبرغم محاولات نظام أردوغان إلصاق التهمة بالاكراد، الا انه لا يخفى على أحد الدور «الداعشي» المدعوم اردوغانياً فـي كل ما يحدث.. ولعل ما ينطبق على تركيا ينطبق بدوره على السعودية، فانقلاب الجماعات الإرهابية على نظام آل سعود لن يكون سوى مسألة وقت!
Leave a Reply