كمال ذبيان – «صدى الوطن»
الحرب على الإرهاب قائمة في لبنان منذ أكثر من عقدين، بل إن لبنان هو من البلدان القليلة التي واجهت التنظيمات الإرهابية، منذ تسعينيات القرن الماضي، وذلك لدى عودة التكفيريين من أفغانستان بعد قتالهم تحت راية الولايات المتحدة الأميركية وبعض الأنظمة العربية، ضد الشيوعية السوفياتية في الثمانينيات، وقد عُرف هؤلاء بـ«العرب الأفغان»، وكان منهم مَن شارك باعتداءات 11 أيلول 2001 الإرهابية.
الإرهاب في لبنان
أول ظهور للتنظيمات الوهابية التكفيرية في لبنان، انبثق عن تنظيم «القاعدة» الذي أسّسه أسامة بن لادن قبل عقود من مقتله المزعوم على يد الأميركيين بعملية أمنية غامضة في باكستان. فقد استطاع هذا التنظيم أن ينشىء فروعاً له في دول عدة حول العالم بأسماء شتى، تمهيداً لإقامة «الخلافة الإسلامية»، وقد بايع هذا التنظيم في لبنان إسلاميون متشددون، عُرفوا بـ«عصبة الأنصار»، وتمركزوا في مخيم عين الحلوة، واتسعت رقعة نشاطهم في العديد من المناطق اللبنانية، لاسيما في طرابلس وعكار والبقاع الغربي والعرقوب.
وكانت أولى عمليات هذا التنظيم اغتيال الشيخ نزار الحلبي رئيس «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» التي تُعرف بـ«الأحباش»، تيمناً بمؤسسها الشيخ عبدالله الهرري الذي هاجر من الحبشة. وجاء استهداف الحلبي صيف 1995، رداً على معارضته للفكر «الوهابي» الذي نشأ في السعودية على يد الداعية محمد بن عبدالوهاب، وهو الفكر الذي ينتمي إليه ابن لادن، والذي تمدّد في أنحاء العالم من خلال المساجد والمدارس الدينية الممولة من قبل السعودية ودول خليجية أخرى
وأصدر القضاء اللبناني حكماً بالإعدام على القتلة، ونُفّذت الأحكام بهم، باستثناء واحداً منهم وقائد الخلية «أبو محجن السعدي» الذي توارى عن الأنظار، وتردّد أنه سافر إلى العراق، لكن «عصبة الأنصار»، ثأرت لإعدام عناصرها، واغتالت أربعة قضاة على قوس المحكمة في صيدا عام 1999.
معارك الضنية
ليلة رأس السنة نهاية العام 2000، ضرب الإرهاب مجدداً في جرود الضنية، تحت اسم «التكفير والهجرة»، حيث نصب التنظيم الإرهابي كميناً لدورية من الجيش وقتلت قائدها الرائد ميلاد النداف، فما كان من الجيش اللبناني إلا أن هاجم معقل التنظيم في شمال البلاد حيث دارت معارك بين الطرفين، أسفرت عن مقتل وأسر عشرات الإرهابيين، لكن عفواً صدر عن المجرمين في العام 2005، تزامن مع العفو العام عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي كان مسجوناً بجرائم قتل منها اغتيال رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي. وقد طالب سعد الحريري حينها بالعفو عن الإرهابيين، الذين لم يتأخروا في العودة إلى نشاطهم ونشر خلاياهم.
مخيّم نهر البارد
في أيار 2007، قامت مجموعة إرهابية بالسطو على فرع لمصرف في بلدة أميون بقضاء الكورة، فقامت القوى الأمنية من شعبة المعلومات بمداهمة شقة في طرابلس، وحاصرت بداخلها عناصر المجموعة الإرهابية الذين اشتبكوا معها بالتزامن مع تحرك مجموعات إرهابية أخرى من طرابلس وعكار، بقيادة عبدالغني جوهر، قاموا بقتل عناصر من الجيش كانوا نائمين في مراكزهم، بالتنسيق مع شاكر العبسي، الذي كان قد أتى إلى لبنان من العراق، مرسلاً من أبو مصعب الزرقاوي، تحت عنوان محاربة العدو الإسرائيلي بعد عدوان 2006.
وتمكن القيادي في حركة «فتح–الانتفاضة» من الاستيلاء على مقار التنظيم في برج البراجنة ثمّ في نهر البارد والبداوي، وحوّلها إلى مراكز لتنظيمه التكفيري باسم «فتح الإسلام»، والذي كان يخطط من خلاله لإنشاء «إمارة إسلامية» في شمال لبنان، حيث كانت الأرض مهيأة لذلك في ظل التمويل والتحريض المذهبي الذي كان في أوجه خلال تلك الفترة، مما سهل انتشار الفكر السلفي المتشدد، وكذلك المجموعات المرتبطة بتنظيم «الإخوان المسلمين». لكن مقتل العسكريين في مخيم نهر البارد، شكل الشرارة التي أحرقت تنظيم العبسي، بعد معارك دامت نحو ثلاثة أشهر، انتهت بتحرير المخيم الفلسطيني الذي تحول إلى أنقاض واستشهاد نحو 180 ضابطاً وجندياً من الجيش اللبناني.
ظهور الأسير
لكن مسلسل الإرهاب لم ينته في لبنان بعد طي صفحة العبسي، إذ ظهر على الساحة بعده، الشيخ أحمد الأسير في صيدا، مطلقاً حملة تحريض مذهبي ضد الشيعة، فنجح في تحريك الشارع واستقطاب المؤيدين للتصويب على «حزب الله» وسلاحه، وقد استغلّته الجهات المناهضة للمقاومة في فريق 14 آذار، وكاد أن يتسبّب بفتنة مذهبية في عاصمة الجنوب.
غير أن صيدا نجت من قطوع الأسير، كما نجت بيروت من فتنة 7 أيار 2008، عندما حاولت الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة تجريد «حزب الله» من سلاح الاتصالات السلكية (الإشارة).
فالأسير الذي ظهر مع بدء الأحداث في سوريا، ليصب الزيت على النار عام 2012، كان مصيره السجن بعد الحسم العسكري ضده في حزيران 2013، فانتهت ظاهرته بمقتل وأسر معظم عناصر مجموعته فيما تم القبض عليه أثناء محاولته الفرار متنكّراً عبر مطار بيروت، وقد أخضع للمحاكمة وصدر بحقه حكم الإعدام.
جرود عرسال
بعد عام من إنهاء ظاهرة الأسير، وتصاعد القتال في سوريا وانضمام «حزب الله» إلى الجبهات لمنع دخول المجموعات الإرهابية إلى لبنان، كانت تلك التنظيمات قد بدأت بالعبور إلى عرسال، لاسيما بعد معارك القصّير وريف دمشق، حيث ظهرت في الجرود إمارتان، واحدة لـ«جبهة النصرة» بإمرة أبو محمد الجولاني، وأخرى لتنظيم «داعش» بقيادة أبو بكر البغدادي، وكان الهدف من وجودهما العسكري، هو ربط البقاع بالشمال، إلا أن «حزب الله» التفّ على هذه المجموعات من الخلف بعد تحرير الزبداني وقطع إمداداتهم، فحاولوا فك الحصار بالهجوم على بلدة عرسال واعتقال عناصر الأمن اللبناني فيها، فقُتل ضابطان من الجيش في مركزهم هما نور الجمل وداني حرب، فضلاً عن عسكريين آخرين تمّ اختطافهم مع عناصر قوى الأمن، فأصبحت عرسال وجرودها «إمارة إسلامية» بقيادة أبو عامر التلي، وبغطاء من قوى «14 آذار» التي زار وفد منها ما أسموهم «الثوار»، قبل أن تبيّن أفعالهم أنهم إرهابيون، فتمكّن الجيش و«حزب الله» من دحرهم عام 2017، بعد أن حولوا المنطقة منذ العام 2014 إلى منطلق لعمليات تفجير وخطف وقصف القرى، فضلاً عن تفخيخ السيارات وإرسالها لحصد الأبرياء في الضاحية الجنوبية لبيروت.
«داعش» من جديد
مع تحرير عرسال وجرودها من تنظيمي «داعش» و«النصرة»، أعاد كل منهما تنظيم خلاياه، لاسيما تنظيم «داعش» الذي زالت دولته في العراق وسوريا، ليظهر من جديد في لبنان. فما حصل في قضاء الكورة قبل نحو شهرين، عندما قتلت مجموعة ثلاثة عناصر من شرطة بلدية كفتون، وفرت باتجاه وادي خالد.
وسرعان ما تبيّن أن هذه المجموعة كانت تحاول تكرار سيناريو عام 2007، عندما تمّ الاستيلاء على مصرف في أميون، وأن مجموعة كفتون، بقيادة خالد التلاوي، كانت تقصد السرقة لتمويل عملياتها الإرهابية قبل أن يكشفها حراس البلدية الذين لقوا حتفهم.
لكن القوى الأمنية والعسكرية نجحت على مدار الأسابيع اللاحقة في تعقب المجموعة وقتل خالد التلاوي في البداوي، واعتقال كل من أحمد الشامي وطبيب يدعى «أ.أ»، كان يساعد بنقل عناصر المجموعة وعلاجهم، ومهندس «ع.ب» كان يتولى صنع المتفجرات، وقد أقروا بارتباط مجموعتهم بـ«داعش».
وقد حاصرت شعبة المعلومات في قوى الأمن 18 عضواً في المجموعة داخل أحد المنازل بوادي خالد، ونجحت في قتل تسعة منهم، من بينهم مسؤول المجموعة محمد الحجار الذي تبين أنه خرج من السجن بعد اعتقاله في عرسال عام 2016، وأعاد تنظيم مجموعته مطلع 2020، عبر تمويلها من خلال عمليات سرقة وسلب، لاستهداف المناطق التي تسكنها غالبية شيعية أو مسيحية، مع التركيز أيضاً على المقرات الدينية من مساجد وكنائس، بهدف إحداث حالة هلع وفتنة، فضلاً عن ضرب الجيش كهدف رئيسي، مثلما حصل العام الماضي، في هجوم على دورية للجيش، قُتل أربعة من عناصرها في طرابلس. وكما حصل بعد معركة وادي خالد الأخيرة، حيث قام الإرهابي عمر بريص، وهو من المنية وينتمي إلى المجموعة، بمهاجمة ثكنة عرمان وقتل عنصرين من الجيش قبل أن يلقى مصرعه.
الدور التركي
أظهرت التحقيقات والتقارير، أن تحريك مجموعات «داعش»، جاء بقرار تركي وبأمر عمليات من إدلب حيث يتمركز التنظيم، وأن المخابرات الفرنسية وبالتنسيق مع المخابرات السورية، كشفت عن تدريب مجموعات إرهابية من لبنانيين وسوريين، ونقلهم إلى لبنان من خلال تأمين العبور لها من إدلب، عبر تدمر وحماه، وصولاً إلى شمال لبنان، في إطار مخطط للاستيلاء على المنطقة كما جرى في عام 2011، بعد اندلاع الأزمة السورية، حين أدخلت تركيا عناصر إرهابية إلى حلب إدلب وجسر الشغور وغيرها.
الجيش السوري تنبه لذلك، وحشد قوات له في تلكلخ على الحدود مع لبنان، بعد مراقبة تحركات الإرهابيين المرتبطين بجماعات سلفية وأخرى متصلة بـ«الإخوان المسلمين»، فتمّ إقفال المعبر بوجههم، ليقعوا في قبضة الأمن اللبناني الذي قتل 9 من أفراد المجموعة المتسلسة واعتقلوا ثمانية، هم خمسة لبنانيين وثلاثة سوريين وفلسطيني واحد.
ولا شك أن تركيا ستواصل العمل على استغلال الأزمة في لبنان، لتجد لها موطئ قدم فيه عبر مجموعات تتمركز في الشمال لجعله نقطة نفوذ لها على شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يدور عليه صراع دولي بسبب النفط والغاز وحركة تصديرهما عبر البحر والموانئ، ولبنان جزء لا يتجزأ من هذا الصراع، بسبب موقعه الاستراتيجي ودخوله نادي الدول المنتجة للطاقة بعد اكتشاف الثروات النفطية في مياهه الإقليمية.
Leave a Reply