إلى أي حد تمارسون “الأهمسا” في حياتكم اليومية أو معاملاتكم المهنية أو في مواقفكم وأحلافكم السياسية؟ الأهمسا.. هي مفهوم هندي يعني: أقسم أن أقول الحقيقة، وهي مبدأ أخلاقي التزم به الزعيم الهندي المهاتما غاندي خلاله نضاله السياسي والوطني.
ومناسبة هذا السؤال.. ليس الثورات العربية التي تحتل واجهات الأخبار والأحاديث الشخصية، بل حادثة إضراب الناشط الهندي آنا هازاري عن الطعام احتجاجا على الفساد المستشري في الدوائر والمؤسسات الحكومية مقتفيا آثار المعلم “بابو” (أبو الأمة) وهو اللقب الذي أطلقه الشعب الهندي على غاندي.
فعلا.. كيف استطاع هذا الرجل الطاعن في السن (74عاما) أن يقنع ما يزيد عن المليار من الهنود بالالتفاف حوله والإيمان بأفكاره، خلال 13 يوما من تجويع نفسه، وكيف استطاع أن يجبر البرلمان الهندي على استصدار قوانين وإنشاء هيئة لمكافحة الفساد يخضع لمراقبتها جميع المسؤولين الحكوميين، واعتماد ميثاق مواطنة لكل إدارة حكومية؟
للوهلة الأولى، يصعب التصور بأن أحدا ما قادر على تمثل مبادئ “الساتياغرا” (المقاومة من خلال العصيان المدني) ما عدا غاندي.. ذلك الشخص النحيل الذي تبدو قصته مجرد حكاية ذات مغزى أخلاقي أو مدرسي، وأن “مسيرة الملح” التي قادها وقطع خلالها 400 كلم مشيا على الأقدام تتبعه جحافل من الهنود.. تبدو بدورها مجرد مشهد سينمائي تقترحه مخيلة شعبية خصبة وملحمية كالمخيلة الهندية. ناهيك عن عاداته في الإضراب عن الطعام، ومجابهة الموت جوعا، لحل الأزمات الوطنية الداخلية، وليس فقط في مقاومة سياسات المستعمر البريطاني قبل رحيله.
وأيا كان، فقد استطاع الهنود أن يتفاهموا على بناء دولة برلمانية ديمقراطية رغم أن أنهم يدينون بعشرات الأديان ويتكلمون مئات اللغات واللهجات.. منها اللغة السنسكريتية التي نعتبرها نحن العرب مثالا على الإبهام والغموض.. لم لا طالما أن لغتنا الفصيحة، لغة البيان والوضوح، تفشل في كل مرة في جعلنا قادرين على التفاهم. تخيلوا لو أن محمد البوعزيزي أعلن بالعربي الفصيح أن سيضرب عن الطعام احتجاجا على مضايقات البلدية في قريته! كم تونسيا، وكم عربيا، سوف يلتفون حوله ويتضامنون معه من أجل إحقاق حقه وصون كرامته؟ ولو أن مصريا أضرب عن الطعام احتجاجا على خطة النظام المصري بتوريث الحكم لابن الرئيس، فكم مصريا أو عربيا سوف يؤمنون به ويؤيدونه. إن سبعة ملايين صومالي “يضربون” عن الطعام، وعشرات الآلاف منهم يموتون جوعا.. بدون أن يرف لنا جفن، أو أن تتعرق جباهنا خجلا. لو كان الموضوع في الصومال سياسيا لملأت الأحاديث أيامنا صراخا واختلافا وتخوينا وفرزا واصطفافا.
ما علينا. من كثرة التفذلك واللت والعجن، صار الواحد غير مستعد لخوض أو مناقشة أي موضوع، قبل أن يستحلف محدثه، أو محاوره، بالله، أو بشرفه، أو بـ”الأهمسا” هذه المرة..
أحلفكم بالأهمسا الهندية (القسم بقول الحقيقة) بماذا تشعرون حين ترون مشاهد القتل الفظيعة والمروعة في سوريا مثلا؟ أحفلكم بالأهمسا.. لماذا ترون كل تلك الدماء، ثم تعودون لتتبنوا روايات النظام عن المجموعات المسلحة وقتل العسكريين. أحلفكم بالأهمسا.. ماذا تشعرون وأنتم تتحدثون عن المؤامرة؟ ألا توجد مؤامرات على الهند مثلا؟ أليس لها عدو قومي؟ ألا يملك عدوها قنبلة نووية أيضا؟ لماذا آمن مئات الألوف بشخص مثل آنا هازاري، ولم يؤمن الكثيرون منا بابراهيم قاشوش أو حمزة الخطيب؟
وبالفعل ماذا على المرء أن يشعر وهو يرى الدبابات تجتاح المدن والقرى صبيحة يوم العيد، وبماذا على الواحد أن يفكر وهو يشاهد الدم الذي يملأ الشاشة، وكيف لأحد أن يفكك خيوط المؤامرة وهو يستقيظ على مذبحة، وينام على مقبرة..
حتى ولو حلفنا بالأهمسا أو بغيرها فلن تتغير الأحوال والمواقف بوصة واحدة، وبمرور الأيام يصبح سفك الدم مجرد حادثة. ولكن ما لا أستطيع نسيانه ذلك المشهد الذي يظهر مجموعة من الجنود الذين يجبرون أحدهم على التشهد بالشهادة السورية الجديدة مجبرين إياه على القول.. لا إله إلا ماهر الأسد!
ثمة أيضا من يفضل الإضراب عن “الوطن”..
Leave a Reply