عماد مرمل
ليس خافـيا ان «بنك الأهداف» الذي أعدته قوى التطرف يتضمن الاعتدال السني المصنف من تلك القوى فـي خانة ألد الأعداء، وبالتالي لا مبالغة فـي القول ان هذا الاعتدال هو فـي طليعة المستهدفـين سابقا وحاليا، لما يشكله من خطر استراتيجي على الاتجاه التكفـيري، باعتبار ان كليهما ينتمي الى لون مذهبي واحد، الامر الذي يحرم التكفـيريين من حرية الحركة فـي ساحات تواجدهم.
خلال تشييع أحد شهداء الجيش اللبناني |
وأظهرت التجارب فـي العراق وسوريا وغيرهما ان البيئة السنية الوسطية تعرضت من قبل السلفيين التكفيريين لاعتداءات دموية عنيفة، طالت رموزها السياسية والدينية وقاعدتها الشعبية – شأنها شأن البيئات الاخرى – من دون ان يشفع لها انتماؤها المذهبي، بل ان هذا الانتماء كان مدعاة لتشديد «العقوبة» عليها، وفق لوائح اتهامية معلبة و«أحكام» جاهزة غب الطلب.
وتحمل أدبيات المتطرفـين فـي طياتها الكثير من النقمة على المعتدلين السنة المتهمين بالتخاذل والخنوع امام الطوائف الأخرى وعدم الدفاع عن «أهل السنّة» فـي مواجهة «الاضطهاد» الذي يتعرضون له، وتجاوز اصول الدين وقواعده وفق فهم التكفـيريين له.
وينسحب هذا الخطاب التخويني على معظم الأقطار العربية والاسلامية التي برزت فـيها التيارات المتطرفة مؤخرا، فـي إطار سعيها الى تعميم ثقافتها الأحادية الجانب، وبناء دويلات متشددة، عابرة للحدود المتعارف عليها.
ولا تكتفـي القوى التكفـيرية الصاعدة بعدم الاعتراف بالآخر، بل تحاول القضاء عليه واقتلاعه من الجذور، كما تدل تجربتا «داعش» و«النصرة» فـي سوريا والعراق، حيث دفع المسيحيون والشيعة والأكراد والارمن والأيزيديون والوسطيون السنّة ثمن تمدد هذا النهج الإلغائي المدجج بالسلاح والانتحاريين المضللين.
وإذا كان لبنان قد حاول طويلا ان ينأى بنفسه عن تحولات المنطقة، إلا ان التطور السريع والدراماتيكي للأحداث جعله يصبح فى مرمى العاصفة التكفـيرية التي ضربته بأشكال عدة، وفرضت عليه تحديات وجودية، طالت كل الطوائف، وفـي طليعتها الطائفة السنية بأكثريتها المعتدلة.
ولعل إلقاء نظرة على هوية شهداء الجيش اللبناني وجرحاه، خلال قتاله على مدى مراحل زمنية عدة ضد التنظيمات المتطرفة فـي عرسال(البقاع) وعبرا(الجنوب) ومخيم نهر البارد والضنية(الشمال)، تُبين حجم الحضور السني فـي هذه المعركة المفتوحة
التي تخوضها المؤسسة العسكرية ضد أصحاب النهج التكفـيري، دفاعا عن الاعتدال والاستقرار.
أكثر من ذلك، كان لافتا للانتباه ان المخطوف الأول الذي اختار تنظيم «داعش» ان يذبحه من بين العسكريين المحتجزين لديه هو الرقيب الشهيد علي السيد، إبن منطقة عكار السنية الواقعة فـي شمال لبنان، والتي يُعرف عنها بأنها تشكل خزانا بشريا للجيش اللبناني.
بهذا المعنى، فإن نمط السلوك لدى الغالبية السنية فـي لبنان لا يحتمل «الحمولة الزائدة» التي تمثلها أفكار الجماعات المتطرفة التي تسربت الى النسيج اللبناني، مستفـيدة من حالة الاحتقان المذهبي على امتداد الشرق الأوسط، وإن تكن هذه الاتجاهات الدخيلة قد نجحت فـي التوسع نسبيا ضمن بعض أوساط الشباب فـي أكثر من منطقة، تحت تأثير الخطاب التعبوي والتحريضي الذي يتلاعب بالعواطف ويضخ الأوهام.
ولئن كان «تيار المستقبل» قد سعى خلال مرحلة معينة، فـي سياق التكتيكات السياسية، الى توظيف ظاهرة التطرف، للإستقواء بها على «حزب الله»، وتخويفه من البديل الذي ينتظره فـي حال إضعاف الإعتدال السني، غير انه سرعان ما تبين لهذا التيار ان تلك اللعبة هي أكبر منه وانه سيكون أول من يدفع ثمنها، وهو الامر الذي ظهرت مؤشراته على أكثر من صعيد.
ومن يراقب خطاب بعض رموز التطرف فـي الآونة الأخيرة، مثل أحمد الأسير وسراج الدين زريقات، يلاحظ ان الحملات القاسية تطال الرئيس سعد الحريري، كما تستهدف السيد حسن نصرالله، ما يعني ان أصحاب هذه الثقافة الإقصائية – الانتحارية، لا يميزون بين الشيعي والسني فـي حربهم الهادفة الى بسط مشروعهم على أوسع مساحة ممكنة من الجغرافـيا.
تقود هذه الحقائق الى استنتاج أساسي وهو ان محاربة التطرف يجب ان تكون من مسوؤلية الاعتدال السني بالدرجة الاولى، للأسباب الآتية:
-ان هذا الاعتدال مهدد بوجوده ودوره، وبالتالي فهو معني بالدفاع عن نفسه فـي مواجهة محاولة إلغائه ومصادرة جمهوره. ولعل التحديات التي تواجه «تيار المستقبل» فـي شارعه اللبناني هي أكبر دليل على طبيعة المخاطر التي تهدده، ذلك ان المتطرفـين يأكلون من صحن هذا التيار، ويحاولون التمدد فـيه بالدرجة الاولى.
-ان الوسطية فـي الطائفة السنية مطالبة قبل غيرها بحماية جوهر الدين الاسلامي وقيمه السامية وبحماية هذه الطائفة تحديدا من ارتكابات أولئك الذين يشوهون
الاسلام ومفاهيمه، تحت شعار حماية «أهل السنّة».
-ان تصدي الاعتدال السني لدوره وواجبه فـي محاربة التطرف يمنح هذه المواجهة عمقا حضاريا وسياسيا، خاليا من البعد المذهبي الذي يفـيد التكفـيريين فـي حملتهم الدعائية، فـي حين ان تصدر او احتكار مكونات مذهبية أخرى للمعركة سيحرفها عن وجهتها الاصلية وسيخدم الساعين الى تصوير ما يجري فـي المنطقة على انه صراع مذهبي بين السنة والشيعة، سواء فـي لبنان او فـي العالمين العربي والاسلامي.
-ان تركيبة المنطقة التي تتشكل أكثريتها الساحقة من المكوّن السني، تجعل المسؤولية الملقاة على هذا المكوّن مضاعفة وطليعية على مستوى صون الهوية الحضارية لهذا الشرق، بتلاوينها المتعددة.
لا يعني ما سبق ان المكونات الاخرى فـي الشرق معفـية من واجباتها، لاسيما لجهة نزع الذرائع من أيدي المتطرفـين الذين يتلطون خلف إحساس البعض بالغبن والتهميش لتنفـيذ مشروعهم وتقديم أنفسهم كحماة للمظلومين والمضطهدين، الامر الذي يستقطب بعض الشباب المسلم المغرر به، ويسهل اختراق التكفـيريين للعديد من مجتمعات الدول.
وعلى أساس هذه المقاربة، فان المطلوب أيضا من «الآخر» فـي كل المجتمعات الرخوة التي تعاني من أزمات داخلية تطمين الشريك السني المعتدل، ومكافحة هواجسه، وتعزيز دوره، وتأكيد الحرص على الشراكة معه، فـي إطار من التوازن والعدالة.
ولأن الاعتدال السني هو رأس حربة فـي الحرب على القوى التكفـيرية، يصبح الرئيس سعد الحريري مطالَبا بالعودة الثانية والسريعة الى بيروت، ليأخذ موقعه الامامي على خط المواجهة ويقود شارعه الذي يتأثر سلبا بغيابه، مع ما يستوجبه هذا التموضع من إعادة ترتيب للاولويات ووقف مغامرة استثمار التطرف للتحريض على «حزب الله» واتهامه باستجلاب الارهاب نتيجة تدخله العسكري فـي سوريا، ذلك ان الخطر الوجودي يستهدف الجميع، وبالتالي يتطلب استراتيجية دفاعية مشتركة.
Leave a Reply