محمد العزير
لا بأس بتعابير قديمة تفتتح موضوعاً حديثاً؛ لا ينتطح عنزان في أن الإعلام يحتل الدور الأكبر في الشأن العام. منذ تعلم الإنسان النطق صارت الكلمة السلاح الأمضى في كل شيء، من الوصف البدائي إلى الوحي المقدس، ومن الأدب والحكمة إلى التجييش والتحريض. في البدء كان الكلمة، قال السيد المسيح، والمسيح في الاعتقاد الإسلامي هو كلمة الله، وقبلهما كلم الله موسى في طور سيناء، والتوراة كلام، والإنجيل كلام، والقرآن كلام، والشعائر تقوم على الكلام، وكل الفلسفة كلام. والكلمة لدى معشر الناطقين بالضاد من العرب مقدسة. أسمى القول بعد آيات الله المكتوبة هو الشعر، والشاعر كان في قبيلته وجهها والناطق الرسمي باسمها، والقائد المبجل مَن جمَع إلى جانب السيف قرض الشعر، ولائحة هؤلاء تطول من الشنفرى إلى الطائي، كليب وشقيقه المهلهل، الحارث بن عباد وعنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم وغيره من أصحاب المعلقات على الكعبة قبل أن يُمنع عن جدرانها أي كلام غير منزل.
لا تشذّ التجربة العربية الأميركية عن هذه القاعدة، وان كانت مختلفة جيلياً وعملانياً. ففي البعد الزمني، يلحظ المتابع أن الإعلام والكلمة لعبا دوراً أساساً في الجولة الأولى من الحضور العربي في أميركا في أوائل القرن الماضي، عبر «الرابطة القلمية» وفرسانها الكبار الذين لم يصبحوا نجوماً في سماء الأدب العربي وحسب (جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيوب والأخوان عبد المسيح وندرة حداد)، بل زودوا العربية لغة وأدباً بأساليب حداثية أيقظتها من السبات التي كتمها تحته العثماني لما يزيد عن أربعة قرون فعرفونا إلى ما سمي يومها الأدب المهجري الذي صار فعلاً الأدب العربي الحديث، أو بالأحرى العربية التي نستخدمها اليوم. أما الجانب العملي في الاختلاف فيعود إلى أن الحاجة الإعلامية الأميركية (القائمة ككل شيء في هذه البلاد على تنافس بين نقيضين) دفعت وسائل الإعلام الأميركية–خصوصاً بعد هزيمة حزيران ونشوء العمل الفدائي– إلى البحث عن مقابل للصوت الصهيوني الجامح والمخيف (للسياسيين والمعلنين والمثقفين والأكاديميين)، صوت يمثل وجهة نظر العرب، الطرف الثاني في قضية «الشرق الأوسط».
هذه الحاجة الإعلامية الأميركية، التي لا يمكن لعربي ادعاء الفضل فيها، ساهمت إلى حد كبير في إيقاظ الحس الإثني لدى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين من أقطار عربية لم يعرف أكثرهم أن سوريا التي هاجروا منها أضحت في ذلك الوقت عدة دول (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التي أصبحت محتلة) كما فتحت عيون المهاجرين الجدد، ممن هاجروا بعد الحرب العالمية الثانية، للنظر إلى ذواتهم كجزء من مجتمع جديد، لا مجرد عابرين في بلاد توفر لهم فرص العمل. عندما خرج الصهاينة بالآلاف في شوارع المدن الأميركية الكبرى وخلفهم عشرات الآلاف من المسيحيين الصهيونيين، يصيحون في الشوارع «اقتلوا العرب جميعاً» بعد الهزيمة العربية الشنيعة في حزيران 1967، انتبه بعض العرب الأميركيين إلى ضرورة إثبات وجودهم تحت مظلة القانون الأميركي.
بدأت بعض الجمعيات البلدية والعائلية في إصدار نشرات دورية ومطبوعات ترنحت على التوالي بسبب كلفة الطباعة والتوزيع، وحتى بعدما تمأسس الحضور العربي على المستوى الأميركي بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، لم تكن هناك وسيلة إعلام عربية أميركية فاعلة ولو على مستوى محلي. كان على العرب الأميركيين أن ينتظروا الاجتياح الإسرائيلي العدواني للبنان صيف 1982، ليكتشفوا أن هويتهم نضجت بما يكفي لخوض التجربة الإعلامية. كانت تلك التجربة على محدوديتها تفتقر إلى التمويل والخبرة والسوق، وكان على رواد تلك المرحلة إما الارتهان الكامل لأنظمة عربية مقتدرة، لا تهمها قضية فلسطين ولا قضايا العرب الأميركيين، بقدر اهتمامها بالدعاية الشخصية للحكام، أو الانكفاء أمام متطلبات العمل المهني المحترف والموضوعي. واجهت الطموحات الإعلامية العربية الأميركية التي حاولت مواكبة الصعود المؤسسي للجالية في تلك المرحلة معضلات حقيقية كبيرة، وكما نرى اليوم بعد ما يناهز الأربعة عقود على ذلك، لم ينج من تلك الجلجلة إلا النادر، ومنهم هذه الصحيفة، «صدى الوطن»، التي لا اعرف صدقاً كيف تمكن ناشرها ورئيس تحريرها الزميل أسامة السبلاني في إبقائها على قيد الحياة، كونها السبب في هجرتي إلى أميركا (أي اعرفها من الداخل منذ العام الأول لتأسيسها… واعرفها من الخارج كمنافس لها لأربع سنوات قبل صفعة الإرهاب الإسلاموي في 11 أيلول 2001).
أكبر المعضلات التي واجهت الإعلام العربي الأميركي ما بعد الاجتياح الإسرائيلي كانت:
1– عدم وجود سوق عربي كافٍ للموارد الإعلانية، مرفق بعدم وعي أصحاب المؤسسات التجارية العربية ومعظمها يعمل في مواد الغذاء لأهمية الإعلان.
2– التربص الصهيوني المؤيد لإسرائيل بأية مؤسسة أميركية صناعية، تجارية أو مصرفية تنشر إعلانات مدفوعة في صحف عربية، حيث كانت تلك المؤسسات تتعرض للتهديد بعدم التعامل الصهيوني الهوى معها.
3– النزاعات العربية في الوطن الأم من لبنان إلى اليمن إلى سوريا والعراق كما فلسطين حول الموالاة والمعارضة التي كانت تترجم في اميركا فعلياً امام ناشري الصحف… إما أن أوافق على افتتاحيتك أو لا أُعلن عندك.
4– كلفة التوزيع: من المتعارف عليه أن أية صحيفة تستفيد من مبيعاتها. لكن في سوق خصوصية جداً ومحدودة جداً كانت كلفة بيع نسخ اية صحيفة تفوق قيمة العائد من بيعها. كان على الصحيفة أن تكون مجانية كي لا تخسر أكثر.
5– لم تقتصر التجارب العربية الأميركية على المطبوعات، بادر بعض الزملاء إلى الاستفادة من تقنية «الكايبل» التي كانت تلزم المحطات الوطنية بتخصيص أوقات شبه مجانية للبرامج المحلية. انتشرت في تلك الفترة وخصوصاً في ولاية ميشيغن برامج عديدة كان معظمها بدائي النزعة والهدف، لكن الأقل، المميز، كان يتمتع بمواهب شباب وصبايا محترفين يعرفون أهمية الصورة والتلفزيون. استرعى ذلك انتباه بعض المتمولين العرب الكبار (من غير أبناء الجالية) الذين كانوا يتعرفون للتو إلى تقنية الفضائيات، وعبر علاقات شخصية أو مهنية تمكنوا من تأسيس أول شبكة عربية أميركية ذات حيثية في السوق الإعلامي. ما غاب عن المتحمسين لتلك التجربة انهم كانوا مجرد فئران تجارب لمشروع أكبر. عندما أثبتت «الشبكة العربية الأميركية» ANA جدواها إعلاماً وإعلاناً ظهر من كان وراء تمويلها وبتوقيع بسيط نقل ملكيتها من العرب الأميركيين إلى أوسع شبكة عربية في حينه (أم بي سي).
6– كانت مسألة وقت قبل أن تهتدي الفضائيات العربية إلى الشبكات الأميركية لتحوّل المحطات المحلية إلى ركام. لم تتعن الشركات العربية الضخمة الرسمية التمويل في سؤال أو استئناس أي عربي أميركي في الميدان رأيه. وكانت مسألة وقت أيضاً، قبل أن تلغي الشركات العربية الناشئة كل الشركات والاهتمامات والاخبار المحلية.
الحالة الآن لا تبشر بكثير من الخير. المؤسسات الإعلامية العربية الأميركية الموجودة مضطرة كلها للتنازل تحريرياً من أجل البقاء. وهذا يقودنا إلى كبرى المعضلات. الصحف العربية الأميركية ثنائية اللغة؛ الجيل الأول من المهاجرين محكوم بسياسات الوطن الأم، وما بعده لا يهمه ذلك، ليس فقط لأنه لا يريد تلك القضايا، لكن والأهم، أنه لا يقرأ العربية، فكيف يمكن التعامل مع ذلك في ظل التواصل الاجتماعي الذي جعل من كل متسلق مشروع جهبذ؟
تفيض صفحات الفيسبوك وتويتر وانستغرام بترهات ونظريات مؤامرة ونرجسية. سيدة عادت إلى ديربورن بعد طلاقها بدأت صفحتها الخاصة ببوست: كيف تحافظين على زواجك بعشر نصائح، ولم يتأخر زميل لها بعد طلاقه بالدخول إلى التواصل الاجتماعي عبر نصائحه في كيفية اختيار الزوجة المناسبة. وهو –بالمناسبة– لديه ولدان قبل الطلاق.
كي لا يكون هذا الكلام في المطلق، وكيلا يصنف في خانة النقّ الصافي. أود أن أقترح على القارئة الكريمة والقارئ الكريم إنشاء صفحة إلكترونية عربية أميركية ثنائية اللغة، لا اهتمامات سياسية لها خارج أميركا، تكون ملتقى للأفكار والمبادرات والمشاريع دون تصنيف مسبق، وتسعى لنيل التمويل من مصادر عربية أميركية فقط، لا تهدف إلى الربح المادي وتستثمر أية عائدات في تطوير ذاتها. أنا واثق في أن ناشر هذه الصحيفة «صدى الوطن» سيوافق بلا قيود أو شروط على استفادة الصفحة العتيدة من أخبار صحيفته دون مقابل، وانا على استعداد لتولي مهام التحرير في هذه الصفحة مجاناً لمدة سنتين، بعدها يختار المجلس الإداري من يشاء. دعونا نعمل. دعونا ننتج. الزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
Leave a Reply