يخطىء من يظن أن الولايات المتحدة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من إنهيار إقتصادي أو مالي، بسبب ما تمر به من أزمات نجم عنها حتى اللحظة، إفلاسات لبنوك إستثمارية كبرى وشركات عقارية عملاقة، وإهتزازات في مؤسسات مالية، وإرتفاع هائل في أسعار المحروقات، وتدني في قيمة الدولار، وتراجع في صناعة السيارات، مع ما رافق ذلك من إرتفاع في مستوى البطالة وتدني الأجور وقليل من التضخم وكثير من الديون الفدرالية، وخسارة ملايين الأميركيين لمنازلهم. كل ذلك مجرد أزمات عابرة تستطيع أميركا تخطيها تدريجا في غضون شهور أو بضع سنوات، وذلك ناتج عن قدرات وإمكانيات لا محدودة تتمتع بها هذه «الإمبراطورية» التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا، يكفي أن نضرب على ذلك مثلين: الأول أن حكومتها الفدرالية كادت أن تضخ في ساعة واحدة 700 مليار دولار لإنقاذ مصرف أميركي من الإفلاس، لولا مسألة التنافس الحزبي التي حالت دون ذلك حتى الآن، هذه تكفي لإنعاش إقتصاد عشرات الدول في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، والمثل الثاني سعر النفط الذي هبط بأكثر من 30 دولارا للبرميل الأسبوع الماضي في الأسواق العالمية، وانعكس ذلك مباشرة على أسعار المحروقات في محطات الوقود الأميركية، مع أنه كان يفترض أن يصل سعر هذه المادة الإستراتيجية إلى مستويات قياسية في الإرتفاع، في خضم ما يمر به الإقتصاد الأميركي من أزمات وما يشهده الدولار من هبوط، لكنها الحسابات السياسية فرضت نفسها متخطية المنطق والأرقام والهندسة المالية، ما أن أطل جورج بوش من على شاشات التلفزة ليعلن أن الإقتصاد الأميركي في خطر، حتى ارتعدت فرائض ملوك النفط وأمرائه وأصحاب الخزائن المترعة بالمال، هؤلاء ليس من مصلحتهم إهتزاز عروشهم والإطاحة بها، ذلك أنهم لم يستندوا في حكم شعوبهم على ما وفروه لهم من عدالة إجتماعية وإزدهار إقتصادي، وإنما إستندوا على حماية أميركا لهم سياسيا وعسكريا، فإن هي أصابها وهن إقتصادي حينها يتراجع نفوذها في أرجاء العالم. ثم أن المسألة في جانبها الإقتصادي البحت شائكة هي الأخرى، فالإقتصاد الأميركي هو بمثابة القاطرة التي تجر من خلفها إقتصادات دول العالم برمتها، ما أن يصيبها عطب حتى تشل الإقتصادات العالمية ويسود الأسواق فوضى وإرتباك، وعليه فدول كبرى كالصين واليابان والهند والمجموعة الأوروبية وروسيا، ليس من مصلحة أحدها إنهيار الإقتصاد الأميركي، كل سيسارع بما أوتي من ثروات وتسهيلات يضعها في خدمة الولايات المتحدة للخروج من أزمتها.
ولأن الإقتصاد الأميركي عالمي الطابع فإن جزءاً من الخسائر التي تكبدها على مدى السنوات الأخيرة، كانت من حسابات مباشرة لحكومات وشركات وبنوك أجنبية تستثمر أموالها في الأسواق الأميركية، فحكومات الدول العربية النفطية على سبيل المثال لها إستثمارات في الولايات المتحدة يصل حجمها إلى مئات المليارات من الدولارات، ناهيك عن مؤسساتها وبنوكها ورجال أعمالها، مع أنها لو استثمرت جزءاً يسيرا من هذه الأموال في الأسواق العربية، لأنعشت الحال الإقتصادي والإجتماعي لملايين الأسر العربية، وكبحت الإرهاب المنتشر في اليمن والسعودية ولبنان والسودان وسوريا ومصر والمغرب والجزائر، وهو إرهاب أساسه الأول هو الفقر.
عليه فالمنظومة الرأسمالية لديها من الآليات ما يكفيها لمداواة جروحها بنفسها، ما دام أن القائمين عليها بيدهم القوة ورأس المال، فما على المستضعفين إلا الثبات في أماكنهم والإنحناء إنتظارا لمرور العاصفة.
Leave a Reply