يوم الأحد السادس من شهر أبريل 2008 كان يوم العطاء في إحتفالية بهيجة على مائدة الخير حيث إجتماع النفوس الخيرة والقلوب الطيبة والعقول النيرة في المجمع الإسلامي في مدينة ديربورن، والتي زحف اليها المؤمنون رجالاً ونساء كل أولئك جاؤوا طوعاً لتلبية نداء الخير نداء السماء: حيث يقول سبحانه {ومن يقرض الله قرضاَ حسناَ يضاعفه له} تلك الإحتفالية هي واحدة من مظاهر الخير والعطاء لأبناء الجالية الكريمة والتي تتكرر في معظم المراكز الإسلامبة وفي كل مرة يزداد عدد المشاركين في تسابق على الخير، هذا المظهر يدعو الى الإحترام والتأمل لحماية هذه القيمة الروحية العظيمة التي تخطت كل العقبات المادية والمحاولات الإستفزازية، بالأمس القريب كان هذا المشهد الرائع في المركز الإسلامي وفي ليلة من ليالي التضحية والفداء شاهدنا أبناء هذه الجالية يتسابقون في العطاء الى درجة يصعب وصفها، واليوم شهدنا صورة مشابهة، وقد توج هذه الصورة حديث سماحة العلاّمة الشيخ عبد اللطيف بري ألذي وضع النقاط على الحروف لمفهوم العطاء ودعم المؤسسات، ونحن نضع أيدينا مع المخلصين لدينهم ومؤسساتهم الدينية والثقافية التي تحتظن أبناء هذا الجيل خشية التأثر من الإنفتاح والحرية في هذا البلد.
أهمية الإنفاقإن أهمية ألإنفاق في سبيل الله والعطاء والبذل للمؤسسات والمراكز الإسلامية والإنسانية أمر تكفل الخالق سبحانه بتوضيحه والحث عليه وضمن حقه للمنفق بأضعاف مضاعه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261)، وقال تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245). والإنفاق في سبيل الله من أفضل الأعمال وأزكاها، فهو يزكي النفس ويطهّرها من رذائل الأنانية المقيتة والأثرة القبيحة، والشح الذميم، وبهذه التزكية يرتقي الإنسان في معارج الكمال والعطاء ولذلك كان العطاء من صفات الله عز وجل.
وهو أيضاً تطهير للنفس من العبودية لغير الله تعالى، وإرتقاء لها واستعلاء ونجاة من البخل الذي يهبط بالعبد إلى مدارك العبودية للدينار والدرهم وصدق الله العظيم إذ يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة:103). والإنفاق في سبيل الله هو في الحقيقة حفظ للمال وزيادة له وليس نقصاناً له واتلافاً كما قد يظن البعض لقوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39)، ولقوله (ص) «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً»، والإنفاق في سبيل الله جهاد عظيم قدمه الله على الجهاد النفسي في القرآن ما يقارب 9 مرات وذلك لأهميته العظمى. والمال لا تظهر فائدته إلا بالإنفاق في المصالح النافعة، أما كنزه وجمعه وعدّه فهو قتل له، وحرمان لثمراته من أن تظهر ولخيراته من أن تزهر، ولطاقاته من أن تتحرك وتنتج، والممسكون معطلون ومتلفون، ومحرومون وجمّاعون لغيرهم. عن أبي ذر الغفاري رضون الله تعالى عليه قال: انتهيت إلى النبي (ص) وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة»، فقلت: فداك أبي وأمي من هم؟ قال: «هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم».
هل الغرب قدوتنا فـي الإنفاق؟في البلدان المتقدمة تساهم القطاعات الإنتاجية والخدمية، ويقوم الأغنياء ومؤسسات المجتمع المدني بنحو 50 بالمئة من الإنفاق على جهود البحث والتطوير العلمي والمعرفي، بينما لا تتعدى هذه النسبة 3 بالمئة من المخصصات الضئيلة للبحث والتطوير في البلدان العربية. أما هذا الشعب الذي نعيش في وسطه، دعونا نقرأ ما يقول هذا التقرير عن تبرعات الأميركيين للجمعيات الخيرية، في عام 2003 وصلت التبرعات إلى 542 مليار دولار، ويمثل 2,2 بالمئة من الدخل القومي، كما أن معدل التبرع سنوياً هو 500 دولار لكل أميركي. منقول عن (الوسط: أسبوعية ملحق لجريدة الحياة، العدد 649، بتاريخ 5 تموز/يوليو 2004) مثال آخر في الأول من كانون الثاني (يناير) 1997 نشرت صحيفة «كريستيان سيانس مونيتور» الأميركية: أن أميركياً، لم يرغب في إعلان اسمه تبرع بمبلغ 35 مليون دولار للدفاع عن التمدن والنزاهة والتقاليد النبيلة في بلاده، وأرسل التبرع إلى «معهد المجتمع المدني» الذي أقيم في ولاية «ماساشوسيتس» ويكرس جهوده لمقاومة الانحرافات والانهيارات السلوكية والأخلاقية الحاصلة في المجتمع الأميركي، وقد وجد الرجل أن رسالة المعهد تحقق له حلماً تمناه لشعبه فوضع تحت تصرفه ذلك المبلغ الكبير.
أنظمتنا العربية ليست قدوة!وكنموذج للتجاهل والإهمال الرسمي بشأن المعرفة والثقافة، نشير إلى ما قاله الدكتور شاكر مصطفى المفكر والمؤرخ السوري، الذي كان يرأس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية، قال: «إن المنظمة رأت أن تضع خطة للثقافة العربية عام 1982 لترسم السياسة الثقافية المستقبلية، واختارت سبعة عشر مثقفاً متخصصاً من سبعة عشر قطراً عربياً لوضع هذه الخطة، التي استمر العمل فيها لمدة أربع سنوات، أُنفق خلالها مليونا دولار، وقد عقدنا 29 مؤتمراً، ضم كل مؤتمر 25 متخصصاً في كل فروع المعرفة الإنسانية، من الموسيقى إلى الصحافة، ومن الدين إلى العلم. ولخصت بنفسي كل هذا وجمعته في خمسة مجلدات مركونة على الرفّوف إلى اليوم!! وقد عانيت المرّ في هذا العمل الضخم ليس بسبب الجهد الذي بذلته، ولكن بسبب تعنّت الحكومات العربية، فلم تمدنا بالمعلومات أو الأرقام الخاصة، وكنت أضطر إلى إرسال مبعوث شخصي إلى هذه الحكومات فيفشل في مهمته، فأضطر إلى السفر بنفسي في كثير من الأحيان، وأواجه بكمّ من الإجراءات والعقبات البيروقراطية الكفيلة بنسف مشروعنا من، ثم وافق وزراء الثقافة العرب بالإجماع على هذه الخطة رغم أنهم لم يقرأوها، وبالتالي لم يقرأها مسؤول عربي واحد إلى الآن».
دور المؤسسات في إحتضان وحصانة أبناء الجالية:إن التحدي الذي يواجهنا هو قيام الحجة علينا ما دمنا في هذه المساحة من الحرية لممارسة ما نؤمن به ونعتقده ، وربما تمكنا من ردم الهوة العميقة، إو قطع المسافة الشاسعة، التي تفصل بيننا وبين المجتمعات المتقدمة، وذلك ببناء مجتمع المعرفة، وامتلاك قدرة العلم، وإصلاح خلل الثقافة. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا ببسط اليد والسخاء في العطاء ، يدفعنا ويشجعنا على ذلك ما تكتبه التقارير عن مجتمعاتنا والتي تشير الى بعض تلك الشواهد: إذ ينخفض عدد الصحف في البلدان العربية إلى أقل من 53 لكل ألف شخص، مقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في الدول المتقدمة. ويوجد أقل من 18 حاسوب لكل ألف شخص في المنطقة العربية، مقارنة مع المتوسط العالمي هو 78,3 حاسوب لكل ألف شخص.. أما إنتاج الكتب في البلدان العربية فلم يتجاوز 1,1 بالمئة من الإنتاج العالمي رغم أن العرب يشكلون نحو 5 بالمئة من سكان العالم. وعلى الرغم من وجود 284 مليون عربي يتحدثون اللغة العربية في 22 دولة، يتراوح العدد المعتاد لنشر أي رواية أو مجموعة قصص قصيرة ما بين 1000 و3000 نسخة، ويعتبر الكتاب الذي يوزع منه 5000 نسخة ناجحاً نجاحاً باهرا. وبينما يصل عدد المنشورات العلمية في فرنسا إلى 840 بحثاً لكل مليون فرد، وفي هولندا إلى 1252، وفي سويسرا إلى 1878 فإنه في البلدان العربية لم يتعد 26 بحثاً لكل مليون فرد عام 1995. ويعاني البحث العلمي في البلدان العربية من انخفاض الإنفاق عليه، إذ أن الإنفاق الرسمي لا يتجاوز 0,2 بالمئة من الناتج القومي، وتتفاوت هذه النسبة من بلد لآخر ويستهلك معظمها في تغطية رواتب العاملين. وللمقارنة نجد أن نسب الإنفاق على البحث والتطوير في البلدان المتقدمة تتراوح بين 2,5 بالمئة إلى 5 بالمئة.
وتعتبر الترجمة من القنوات الهامة لنشر المعرفة والتواصل مع العالم، إلا أن حركة الترجمة في البلدان العربية ما زالت تتسم بالركود والفوضى، فمتوسط الكتب المترجمة لكل مليون من السكان في الوطن العربي في هذه السنوات الخمس هو 4,4 كتاباً، أي أقل من كتاب واحد في السنة لكل مليون من السكان، بينما بلغ 519 كتاباً في المجر، و920 كتاباً في أسبانيا لكل مليون. ورغم ازدياد عدد الكتب المترجمة في العالم العربي من حوالي 175 كتابا في السنة خلال الفترة 1970-1975 إلى ما يقرب من 033 كتاباً حاليا إلا ان هذا الرقم يشكل خمس ما تترجمه اليونان مثلاً. ويقدر الإجمالي التراكمي للكتب المترجمة منذ عصر المأمون حتى الآن بحوالي 10000 كتاباً وهو يوازي ما تترجمه أسبانيا في عام واحد.
الخلاصةإن نجاح الأمم وتفوقها مرتبط بمقدار العطاء والتفاني والتضحية ، وأن حماية الأقليات مرهون بحجم البذل والإنفاق على مؤسساتها ومراكزها التنموية الثقافية والتربوية
Leave a Reply