نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لصبر الإيرانيين حدود!
هذا ما أظهره القرار، غير المفاجئ، الذي اتخذته القيادة الإيرانية بشأن الاتفاق النووي، بعد أشهر على الاجراءات الاستفزازية من قبل إدارة دونالد ترامب الذي يبدو راغباً في استغلال الملف الإيراني إلى أبعد حدود في حملته الانتخابية المقبلة.
الرد الإيراني على الاستفزازات الأميركية جاء دقيقاً في التوقيت والشكل. اختارت القيادة الإيرانية الثامن من أيار، الذي يوافق الذكرى السنوية الأولى للانسحاب الأميركي الأحادي الجانب من اتفاقية فيينا للإعلان عن تعليق اثنين من التزاماتها النووية:
أولاً، لن يعود مخزون اليورانيوم المنخفض التخصيب مقتصراً على 300 كيلوغرام.
وثانياً، لن يكون هناك التزام بحدّ المئة وثلاثين طناً مترياً من مخزونات المياه الثقيلة.
أما الأهم، فهو ما أعلنه الرئيس حسن روحاني من أن طهران ستمنح الأطراف المتبقية في التسوية النووية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي) مهلة 60 يوماً للوفاء بالتزاماتها في قطاعي النفط والتعاون المصرفي، باعتبارهما جزءاً لا يتجزأ من صفقة فيينا، وإذا فشلوا أو رفضوا، فستزيد من جهودها لتطوير البرنامج النووي.
هكذا تتجه تسوية فيينا التاريخية نحو نقطة ما قبل الصفر.
بطبيعة الحال، وبعيداً عن ردود الفعل التحذيرية من قبل الغرب، لا يمكن لإيران أن تُلام على إجراءاتها الأخيرة، كما أن لا خيار آخر أمامها في ظل الخطوات التصعيدية الخطيرة التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب منذ الثامن من أيار عام 2018، والتي بلغت ذروتها خلال الأسابيع الماضية، ابتداءاً بتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، مروراً بوقف الإعفاءات الخاصة بعملاء النفط الإيرانيين لمواصلة عمليات الشراء، وصولاً إلى القرارات الأخيرة المتصلة بوقف السماح لإيران بتصدير فوائض الماء الثقيل إلى عُمان، ووقف السماح لها بتبادل اليورانيوم منخفض التخصيب الذي يتجاوز 300 كيلوغرام لليورانيوم الأصفر، إلى جانب عقوبات جديدة فُرضت على قطاع التعدين الأسبوع الماضي.
ماذا تريد واشنطن؟
أهداف التصعيد الأميركي ليست خافية على أحد، وهي تتمثل في زيادة الضغوط الاقتصادية المؤلمة على الجمهورية الإسلامية من أجل تأجيج انتفاضة داخلية التي تضعف سيادة الحكومة الإيرانية، وتجبر طهران على العودة إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأميركية، وهو ما قد يشكل فرصة ذهبية لدونالد ترامب للحصول على إنجاز في السياسة الخارجية يمكن استثماره انتخابياً، مع تعثّر كافة الملفات الأخرى، ابتداءً من سوريا، مروراً بفنزويلا، وصولاً إلى كوريا الشمالية، التي عادت بالأمس إلى توجيه رسائلها الصاروخية لجارتها الجنوبية.
مع ذلك، يبدو الهدف الأميركي هذا غير مضمون من حيث النتائج، إذ لا يمكن ضمان حدوث أزمة اقتصادية لإثارة انتفاضة محلية كتلك التي تريدها إدارة دونالد ترامب، وهو ما يجعل كثيرين متشككين إزاء إمكانية تحقيق هذا الهدف، لا سيما أن الأوروبيين، وبطبيعة الحال الروس والصينيين، غير مستعدين لدعم تغيير النظام في إيران، وهو ما تبدّى على سبيل المثال في المواقف من الأزمة الاقتصادية-السياسية التي شهدتها الجمهورية الإسلامية في مطلع العام الماضي.
كل ذلك يطرح تساؤلات جدّية حول الارتباك في المقاربة الترامبية للملف الإيراني، وهو ما بدأ الديمقراطيون في الولايات المتحدة في الإشارة إليه، للتصويب على إخفاقات الرئيس الحالي الطامح إلى الفوز بولاية رئاسية جديدة العام المقبل.
تصريحات ترامب نفسه تجاه إيران تؤكد هذا الارتباك، فهو نفسه الذي هدد بتدمير كوريا الشمالية قبل لقاء زعيمها كيم جونغ أون في مؤتمرين هامين، وهو يكرر ذلك حين يقول إنه يأمل «يوماً ما» في التفاوض وجها لوجه مع القادة الإيرانيين، وإن كان كثيرون يرون أن الأمر ليس بتلك البساطة، خصوصاً أن القيادة الإيرانية، بكافة أجنحتها، تمتلك ما يكفي من أوراق القوة لرفض المفاوضات تحت التهديد.
أوراق القوة ذاتها، تجعل إيران اليوم أكثر قدرة على التعامل بحزم وبراغماتية في آنٍ واحد مع سياسات ترامب، فعلى مدار العام الماضي، ظلت إيران تتفاعل بذكاء مع استراتيجية الأميركيين، ضمن سياسة النفس الطويل، التي مارستها منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، مروراً بكل محطات التفاوض النووي.
ولكنّ سياسة النفس الطويل بالنسبة لإيران لا يمكن أن تقتصر على ضبط النفس تجاه الاستفزازات الأميركية، فالقيادة الإيرانية تستشعر منذ فترة خطر العقوبات الأميركية، ذات الأهداف الواضحة، وإذا كانت قد أبدت تمسكها طوال العام الماضي بالاتفاق النووي، برغم تراجع الفوائد الاقتصادية التي كان يفترض أن تترتب عليه، إلا أن الخطوات التصعيدية الأخيرة، لا سيما بعد وقف الإعفاءات لعملاء النفط الإيرانيين، ستدفع طهران إلى الرد بخطوة إلى الإمام، على غرار قراراتها الأخيرة، والتي يفترض أن تأخذ منحى متدرجاً.
مصير فيينا
في تقدير القيادة الإيرانية فإن الرد الأخير على الاستفزازات الأميركية بات ضرورياً، ليس لضمان مصداقيتها التفاوضية فحسب، وإنما للإمساك بكثير من الأوراق التفاوضية في حال ذهبت الأمور نحو محادثات نووية مستقبلية.
يضاف إلى ما سبق أن الرد الإيراني يمكن أن يستهدف شراء الوقت، وترقّب ما ستؤول إليه التطورات الداخلية في الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، مع انطلاق السباق الجمهوري–الديمقراطي إلى البيت الأبيض، وبشكل عام، انتظار ما إذا كان ترامب سيعاد انتخابه، وبالتالي الاستعداد لمواجهة محتملة، في حال مضى الرئيس الجمهوري قدماً في خياراته التصعيدية، أم أن الانتخبات الرئاسية المقررة بعد عام ونيّف ستأذن بوصول رئيس ديمقراطي يعيد العمل بالتسوية النووية، التي أقرها باراك أوباما.
لكنّ السؤال المحوري يبقى في إمكانية إدارة هذا الصراع خلال الأشهر المتبقية من الولاية الرئاسية الحالية لترامب؟ وإلى أي مدى يمكن حماية ما تبقى من تسوية فيينا، وابعادها عن نقطة الانهيار؟
الإجابة ليست سهلة، حتى لدى صناع السياسات في واشنطن وطهران وباقي عواصم العالم المعنية بالملف الإيراني، خصوصاً أن المأزق الداخلي لدونالد ترامب سيدفعه، من دون أدنى شك، إلى إجراءات تصعيدية متجددة، على ثلاثة مستويات:
الأول، مواصلة توسيع حضور الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، والحفاظ على قوتها العسكرية، لمواجهة حلفاء إيران الإقليميين.
الثاني، زيادة العقوبات الاقتصادية على إيران وحلفائها الإقليميين، فضلاً عن تكثيف تطبيق العقوبات الحالية، وذلك من خلال شبكة أوسع من العقوبات الثانوية على الصادرات والواردات الإيرانية التي تتجاوز العقوبات الحالية، وهو ما بدأ بالفعل مع إعلان ترامب عقوبات على الصلب والألمنيوم والحديد والنحاس.
الثالث، محاولة تأخير تطوير البرنامج النووي الإيراني باستخدام الهجمات الالكترونية، كما حدث في السابق، بما لا يؤدي إلى تصعيد الموقف بنفس القدر من الضربة العسكرية ، ولكن يمكن أن يكون له التأثير المرغوب.
من المؤكد أن التصعيد المرتقب سيؤدي إلى تصاعد التوترات الإقليمية في الشرق الاوسط، سواء على المستوى العسكري كما هي الحال في سوريا، التي يتحرك مشهدها الميداني على إيقاع الاستعدادات لمعركة إدلب، أو في اليمن بعدما تجاوز محمد بن سلمان، على ما يبدو، عاصفة «جمال خاشقجي»، أو على المستوى العسكري كما هي الحال في العراق، المهيأ، كما العادة، لتفاعلات المشهد الإقليمي، أو في لبنان، حيث بدأ الاشتباك السياسي بالفعل، منذ الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بيروت قبل أسابيع.
Leave a Reply