وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
الاستدارة الإماراتية: انسحاب تكتيكي، إعادة انتشار، هروب من الباب الخلفي، غدر بالسعودية… تسميات مختلفة والنتيجة واحدة: السعودية بقيت وحيدة في حربها على اليمن. فمنذ أن ألمحت الإمارات إلى بدء تنفيذ مخططها لمغادرة المستنقع اليمني وتخليص نفسها منه، والتوتر يخيم على علاقتها مع الرياض، على الأقل في العلن.
تحاول أبو ظبي جاهدة الإيحاء بأن تحالفها مع الرياض استراتيجي وقائم على علاقة جوار وأخوة عميقة، وبأن خطوة الانسحاب من اليمن لم تحدث من دون تنسيق مع الشقيقة الرياض، فيما أكدت «نيويورك تايمز» أن قرار الانسحاب لم يأتِ إلا بعد أن تأكدت أبوظبي من استحالة كسب الحرب. ونقلت «رويترز» أيضاً عن مسؤول إماراتي رفيع قوله إن بلاده ستظل ملتزمة بتحالفها مع السعودية في اليمن، وإنها لن تترك فراغاً ميدانياً.
تستند أبوظبي في ذلك إلى تدريبها عشرات الآلاف من المقاتلين الانفصاليين الجنوبيين ومقاتلي سهول الساحل، ما يمكّنها بطبيعة الحال من إعادة إرسال مقاتليها متى شاءت. ويذهب آخرون إلى القول –طبعاً بهدف التخفيف من وطأة عملية الانفكاك من التحالف مع السعودية– إن ما حصل ليس سوى مجرد انتقال من مرحلة إلى أخرى، أي من مرحلة الانخراط المباشر في الحرب على اليمن إلى مرحلة إدارتها بالوكالة واستغلال مقدرات وثروات اليمن بالتنسيق مع «الأشقاء السعوديين»، إلا أن الوقائع الأخيرة على الأرض تشي بعكس ذلك، وما وقع من احتراب بين «الإخوة» يعكس حجم الخلاف الحقيقي الذي وصل إلى حدّ إراقة الدم والاتهام بالغدر. وكانت الإمارات قد انضمّت إلى تحالف عربي بقيادة السعودية في آذار (مارس) ٢٠١٥ على أثر إطاحة الحوثيين بالحكومة التي كانت قائمة.
أسباب الافتراق في اليمن
في قراءة سريعة لا تحتاج إلى الكثير من التعمق، تطفو على السطح أسباب عديدة كانت وراء قرار الانسحاب الإماراتي من اليمن، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو أمني، ومنها ما هو اقتصادي، وهو الأهم.
الأسباب السياسية
في الأسباب السياسية، تبرز وبقوة، الخلافات الداخلية بين قادة الإمارات أنفسهم، وعلى رأس هؤلاء أمير دبي محمد بن راشد آل مكتوم الذي نُقل عنه إصراره على الوقف الفوري للحرب على اليمن، لما في استمرارها من مهلكة واستنزاف لمقدّرات البلاد، ولوعي الرجل خطورة تعميق الخلاف مع إيران وانعكاسه على أمن البلاد واقتصادها.
وفي ما يندرج ضمن الأسباب السياسية أيضاً، تعاظمُ القلق الدولي إزاء حجم الخسائر المتزايد في عدد الضحايا المدنيين في اليمن ولاسيما الأطفال والنساء، حيث تشير التقارير الأممية إلى أن أكثر من ١٤ مليون يمني يواجهون خطر المجاعة، إلى جانب تفشي وباء الكوليرا الذي يواصل انتشاره تحت الحصار، عدا عن استهلاك الأسلحة المحرمة دوليا وتشريد مئات الآلاف.
سمعة الإمارات –وسمعة كل من شارك في تحالف اليمن– تلطخت بهذه الأرقام الموثقة لدى الأمم المتحدة، التي أكدت أيضاً أن اليمن يشهد أكبر مجاعة في التاريخ الإنساني الحديث.
الأسباب الأمنية
التفت الإماراتيون وقبل وقوع الواقعة، إلى أن اندلاع أي مواجهة في الخليج قد يعني نهاية لوجودهم على الخريطة الدولية. كيف لا وأبوظبي تحوي جنة القواعد العسكرية الأميركية، «قاعدة الظفرة»، وهي القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرة الأميركية المسيرة التي أسقطها حرس الثورة الإيراني حين اخترقت المجال الجوي للجمهورية الإسلامية.
وكانت طهران قد هددت بكل وضوح أن أي مكان تنطلق منه أية عملية هجومية ضدها سيكون هدفاً لها وسيُدمّر فوراً، فضلاً عن التوتر المتزايد في العلاقة مع إيران على خلفية النزاع في اليمن، وليس خافياً على أحد، الدعم الإيراني للحوثيين.
قد تكون أبوظبي تنبّهت إلى حجم قدراتها في مواجهة بلد مثل إيران، فقتال الحُفاة اليمنيين الذين أنهكهم الجوع والمرض والاقتتال الداخلي وتهالكُ البنى التحتية في بلادهم يختلف تماماً عن قتال دولة قوية ومتطورة مثل إيران، تواجه الولايات المتحدة نفسها وتسقط لها طائراتها وتحتجز ناقلة نفط بريطانية رداً على احتجاز ناقلة لها، فيما تقف الدولتان العظميان عاجزتين عن فعل أي شيء مخافة الانزلاق نحو حرب غير محسوبة العواقب والنتائج. تلقّت أبوظبي إنذاراً شديد اللهجة من طهران مفاده أنكم لا تكلفوننا أكثر من عدد قليل من الصواريخ. وفهمت أبوظبي، الرسالة جيداً.
الأسباب الاقتصادية
تستحوذ إمارة دبي وحدها على نحو ٩٠ بالمئة من إجمالي حجم التبادل التجاري الإماراتي مع إيران، وفيما بلغت الصادرات الإيرانية إلى الإمارات نحو خمسة مليارات دولار، وصلت الصادرات الإماراتية إلى إيران إلى نحو سبعة مليارات دولار.
وبحسب مصادر رسمية إيرانية، فإن الإمارات هي أكثر دول العالم تصديراً لإيران، إذ تشكل صادراتها نحو ٣٠ بالمئة من واردات إيران.
كذلك فإن إيران تُعد رابع أكبر شريك تجاري للإمارات، في حين أن الإمارات هي ثاني أكبر شريك تجاري لإيران، حيث يوجد أكثر من عشرة آلاف شركة إيرانية في الإمارات.
ولا تخفي الإمارات هذا الأمر، فقد أكّد وزير الاقتصاد الإماراتي، سلطان المنصوري، أن حجم التبادل التجاري بين بلاده وإيران قد بلغ ١٧ مليار دولار في نهاية عام ٢٠١٤، في حين قُدّر حجم هذا التبادل التجاري بنحو ١٨ مليار دولار خلال عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣، و٢٣ ملياراً في ٢٠١١.
هل جرت الرياح بما لا تشتهي سفن الرياض؟
على عكس رغبة الرياض، كما يبدو، تلتقي قوات خفر السواحل الإماراتية والإيرانية في طهران، في وقت أشار فيه أكثر من مسؤول إيراني، خلال الفترة الأخيرة، إلى أن دولة الإمارات ترسل وفوداً تحمل رسائل إيجابية إلى إيران، لحل التوتر بين البلدين.
كثرت الزيارات الإماراتية إلى طهران رغم تحذيرات واتهامات كانت قد وجهتها الأخيرة إلى أبوظبي على خلفية تصنيفها لها كـ«وكر للتجسس الأميركي»، وذلك على أثر اعتراف أفراد شبكة تجسس تعمل لصالح وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) أنهم تلقوا تعليماتهم الخاصة بمهام عملهم الاستخبارية داخل أحد فنادق دبي، وقبل ذلك كانت قد وقعت حادثة «غلوبال هوك» طائرة التجسس الأميركية المسيَّرة التي أسقطتها إيران، والتي انطلقت من قاعدة «الظفرة» الموجودة على الأراضي الإماراتية.
غضّت إيران الطرف عن إيغال الموقف الإماراتي في التماهي مع سياسة واشنطن ضد طهران، وأبرمت اتفاقاً مع أبوظبي بعد محادثات عقدها قائد قوات حرس الحدود الإيراني العميد قاسم رضائي، مع قائد قوات خفر السواحل الإماراتي العميد محمد علي مصلح الأحبابي والوفد المرافق له في طهران لبحث سبل توسيع العلاقات وتعزيز أمن الحدود بين البلدين.
بدورهم، ساسة أبوظبي غضّوا الطرف عن جزرهم الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) التي يتنازعون ملكيتها مع طهران، مدركين أن السياسة هي فن الممكن، والأولوية اليوم هي للأمن السياسي والاقتصادي.
القراءة الإيرانية للسلوك الإماراتي الجديد
يرى الإيرانيون أن الانعطافة الإماراتية ليست سوى مقدمة لتحول في السلوك السعودي، فمهما ارتأت أبوظبي تقديم مصلحتها، لن تستطيع تجاوز «الشقيقة الكبرى» الرياض، هذا إذا لم نذهب بعيداً في التحليل، ولم نتجاوز منطقة الخليج، لنبلغ عتبة ولي الأمر في البيت الأبيض، الذي أشاح بوجهه عن «الفعلة الإماراتية» باعتبارها شأناً سيادياً «يخص الإمارات وحدها»، ما يُقرأ أيضاً على أنه رغبة في إفساح المجال لتخفيف التوتر الذي كاد أن يأخذ الوضع نحو الانفجار. إذاً، ربما تكون الأزمة مقبلة ربما على انفراج ولو محدود، ولا سيما إذا ما أضفنا هذه المعطيات إلى الإشارات التي وردت حول قرب الإفراج عن السفينة الإيرانية من قبل سلطات جبل طارق.
قد تصيب طهران في قراءتها، لكن الأهم هو الخطوة التالية التي ستعقب الخطوة الإماراتية، وهل تكون الخطوة التالية سعودية؟ إن غداً لناظره قريب.
Leave a Reply