محمد العزير
مع اقتراب موعد انتخابات الكونغرس في الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، وما يسبقه من استحقاقات الانتخابات التمهيدية، خصوصاً في ميشيغن يوم الثاني من آب (أغسطس) المقبل –أي بعد أقل من شهر– تزداد صورة ما يريده تحالف المحافظين واليمين الديني، لأميركا – بعد التجربة البائسة التي عاشتها أقوى دولة في العالم تحت رئاسة دونالد ترامب التي أيقظت أحط المشاعر العنصرية وأخرجت شذاذ الآفاق والفاشيين والنازيين الجدد من أوكارهم القذرة وأوشك فيها الرئيس الأميركي أن ينقلب على الدستور في الهجوم الفاشل على مقر الكونغرس في محاولة منه لمنع التداول السلمي للسلطة للمرة الأولى في تاريخ البلاد. إنها صورة قاتمة تريد العودة بأميركا إلى عشرينيات القرن الماضي في أوروبا، برغم ما فيها من ويلات ومآسٍ وفظائع.
أغرب ما في المسعى الديني المحافظ نحو الفاشية أنه لم يعد سراً ولم يعد أصحابه يخجلون أو يدارون نواياهم وأفعالهم بل يتباهون بها.
ففي واشنطن العاصمة، تستمر فصول محاولة الانقلاب الفاشلة بالتكشف تباعاً من خلال شهادات كبار الموظفين في إدارة ترامب، ليظهر لنا مدى الخطر الذي يحدّق بالسياق الديمقراطي بعد أن وضعت البلاد على شفير أزمة دستورية وسياسية لا يعرف مداها أحد. وفي حين يواصل الحزب الجمهوري حالة الاستلاب المعيبة إزاء ترامب وغلاة حلفائه، أظهرت المحكمة الأميركية العليا التي يسيطر عليها القضاة المحافظون أنها تحولت إلى ذراع تنفيذية للتحالف المشين، ولم تعد كما أرادها الآباء المؤسسون موئلاً للعدالة الرصينة القادرة على تطبيق القانون وحماية المبادئ الدستورية، فلم تتورع عن وضع العقيدة قبل الدستور وعن إحلال القناعات الدينية الشخصية محل الحقوق الدستورية.
يمكن لأي مراقب أن يكتشف بسهولة أن السلوك الانقلابي لترامب وأعوانه، وقرارات المحكمة العليا التي ألغت الحق الدستوري للنساء بالإجهاض بحجة إعادة الصلاحيات للولايات، وفي المقابل منعت ولاية نيويورك من ممارسة صلاحياتها بتقنين اقتناء وحمل السلاح على أراضيها، ومنعت وكالة حماية البيئة من اتخاذ تدابير ضد كبرى الشركات المسببة للتلوث، وأطاحت الحماية الدستورية لحق التصويت، ما هي إلا رأس جبل الجليد الكامن تحت سطح العمل السياسي، لأن الحزب الجمهوري فقد صفته كمؤسسة سياسية وطنية وتحول إلى فصيل عنصري يقف على قائمين خطيرين، الأول عبادة الشخص، وإن كان تافهاً بجميع المعايير، والثاني نظرية المؤامرة، وهي طاحونة للترهات والشطط والهوس.
على من يعتقد أن في هذا الكلام مبالغة أو تحاملاً أن يراجع برنامج العمل السياسي الذي أقره مؤتمر الحزب الجمهوري الشهر الماضي، في أكبر ولاية يسيطر عليها، وهي تكساس.
يستهل البرنامج بنوده الـ338 برفض الاعتراف بشرعية الرئيس جو بايدن «لأنه لم ينتخب بطريقة قانونية من الشعب الأميركي!»، ويتناول بعدها كل القضايا الراهنة التي تهم تكساس وأميركا بلغة فئوية عنصرية انعزالية فاقعة، فيدعو إلى سحب موازنة مبادرات العدالة البيئية، وإلغاء كل حقوق النقابات في التفاوض مع المؤسسات الحكومية والخاصة، وحرمان النقابات العمالية من أي تمويل حكومي، وإلغاء الحد الأدنى للأجور، ومنع النقابات من تحصيل رسوم الانتساب بدون موافقة خطية مسبقة من الأعضاء، والسماح للشركات بفصل أي موظف أو عامل بلا سبب، وإلغاء قانون «دود–فرانك» الذي ينظم عمل المؤسسات المالية والمصارف في البورصة ويحمي المودعين، وتعديل نظام الضمان الاجتماعي والسماح لمن يريد بعدم المشاركة فيه، وإلغاء الاتفاقيات التجارية بين أميركا ودول العالم، وشطب القوانين التي تحرم التجارة بالنباتات والحيوانات المعرضة للانقراض، وإلغاء ملكية العمال الجماعية للشركات التي يعملون فيها، فضلاً عن معارضة استثمار أية أموال حكومية لإنشاء سكك للقطار السريع وعدم إجبار المحلات والشركات على الالتزام بوضع الكمامات.
وفي إشارة واضحة إلى الرغبة في إطلاق العنان للتحريض العنصري والتمييز دعا برنامج العمل السياسي الجمهوري إلى الحفاظ على تماثيل ونصب رموز الكونفدرالية باعتبارها جزءاً من التراث الأميركي، وإلغاء أية رقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنع أي تقنين لـ«خطاب الكراهية» أو للجرائم ذات الدوافع العنصرية والتمييزية، وإلغاء قوانين «جرائم الكراهية»، واحتفاظ ولاية تكساس بحق الانفصال عن الولايات المتحدة إذا أقر الكونغرس أو الرئيس أي تغيير للنظام السياسي، ومنع اعتماد أي قانون أجنبي بما فيه الشريعة الإسلامية وقوانين الأمم المتحدة في أميركا، وإلغاء أية اتفاقية أو معاهدة مع أية دولة أو هيئة أممية أو منظمة غير حكومية لم يصادق عليها مجلس الشيوخ الأميركي.
ويقابل ذلك، إصرار على جعل أميركا أكثر بياضاً وأوروبية وبروتستانتية من خلال تعديل قوانين الجنسية لتشمل فقط المولودين في الولايات المتحدة من أم أو أب أميركيين، وحصر الإحصاء السكاني بحملة الجنسية الأميركية فقط، وإلغاء الانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ وإعادة العمل بتعيينهم من قبل المجالس التشريعية في كل ولاية، وإدخال تعديل دستوري يجعل الإنكليزية اللغة الرسمية لأميركا، وعدم المصادقة على التعديل الدستوري الذي ينص على المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء، والتأكيد على القيم العائلية المسيحية–اليهودية، وإلغاء القوانين والتشريعات التي تحد من حرية اقتناء وحمل السلاح ومعارضة أي ضوابط على شراء وبيع الأسلحة والذخائر، والسماح بحمل السلاح في المدارس، ومعارضة أي تدابير صحية وقائية تتطلب استخدام الكمامات أو إغلاق المؤسسات، المطالبة بمنع الإجهاض، بالإضافة إلى معارضة أي أبحاث طبية على الخلايا الجذعية، ومنع تمويل مؤسسات تنظيم الاسرة.
وإمعاناً في تحطيم السياق الدستوري وسيادة القانون طالب البرنامج الجمهوري بإلغاء وزارات التربية والطاقة والشؤون الاجتماعية والعمل والداخلية والاسكان وكذلك مصلحة الضرائب IRS ومكتب إدارة الأراضي ومكتب الكحول والسلاح والتبغ ATF والمجلس الوطني لعلاقات العمل، وإباحة النشاطات الدينية في المؤسسات والمدارس الحكومية، وإلغاء برامج التثقيف الاجتماعي والتثقيف الجنسي وحقوق الإنسان والامتحانات الرسمية الموحدة، وإلغاء تعليم الصحة الجنسية، ومعارضة مناقشة التاريخ العنصري في أميركا واستبدالها بتعليم الهوية الأميركية ومساوئ الاشتراكية والشيوعية، وإجبار الطلاب على أداء قسم الولاء لأميركا يومياً لتعزيز الشعور الوطني، ونشر شعار «نثق بالله» في كل مكان، وإلزام الطلاب غير الناطقين بالإنكليزية بإتقان اللغة خلال سنتين، ومنع غير الأميركيين من إدارة المدارس الخاصة، وإلغاء نظام التفرغ في الجامعات والمعاهد وإلغاء أي منح حكومية أو تمويل للتعليم العالي، وإلغاء قانون إعادة الاستثمار الاجتماعي (المخصص لتوفير مساكن لذوي الدخل المحدود والمهمشين)، وإلغاء برامج المساعدات الاجتماعية والإنسانية، ومعارضة حملات التلقيح، وإلغاء قانون إصلاح الرعاية الصحية (أوباماكير)، وإلغاء مؤسسات الإسكان والقروض العقارية وضريبة الميراث، والمطالبة بتخلي الحكومة الفدرالية عن أملاكها العقارية.
وفي إطار ترهيب الناخبين الملونين والمهاجرين، طالب البرنامج أيضاً بحصر التصويت المبكر بسبعة أيام فقط وإلغاء التصويت عبر البريد، واعتماد بطاقة انتخابية مع صورة شخصية، وإلغاء كل القوانين التي تسهل تسجيل الناخبين، والمطالبة بتجديد تسجيل الناخبين كل أربع سنوات، وإلزام الناخب بتقديم إفادة سكن خطية ووثيقة إثبات الجنسية، وفرض عقوبات وغرامات على كل من يساعد في تسجيل الناخبين أو مساعدتهم في الوصول إلى مراكز الاقتراع أو خدمتهم أثناء الانتظار أمامها، وإلغاء أي تصنيف للمواطنين على أساس العرق أو اللون أو الأصل الإثني، معارضة تخصيص دوائر انتخابية تراعي وجود الأقليات، وإلغاء قانون حماية الحقوق الانتخابية، واعتماد الإنكليزية فقط على أوراق الاقتراع، ومنع المواطنين غير المنتمين إلى الحزب الجمهوري من التصويت في الانتخابات التمهيدية الخاصة بالحزب، ومنع الديمقراطيين من تغيير انتمائهم الحزبي إلى جمهوريين بغرض التأثير على نتائج الانتخابات التهميدية، ومعارضة إنشاء دوائر انتخابية غير تفضيلية للمرشحين المحافظين.
في مجال الشؤون الخارجية، يدعو البرنامج إلى منع الاتصال الحكومي بمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير) وتصنيفه بأنه مؤسسة داعمة للإرهاب، ويطالب البرنامج أيضاً بالمزيد من المساعدات والدعم لإسرائيل ويرفض أي انتقاد لها ويستعجل إصدار قوانين جديدة تجرّم أية محاولات لمقاطعة المستوطنات وإسرائيل وخصوصاً حركة BDS الناشطة في الجامعات.
وفي حين يغفل البرنامج أي ذكر للعدوان الروسي على أوكرانيا، يركز هجومه على الصين مطالباً الأميركيين بالتخلي عن صادراتها وسلعها، كما يدعو إلى الاعتراف باستقلال تايوان وإبرام اتفاقية دفاع معها، ويطالب بالانسحاب من منظمة الأمم المتحدة وكل مؤسساتها ومنعها من التواجد على الأراضي الأميركية ومنع التمويل عنها، والانسحاب من أية اتفاقيات تعاون مع المنظمات غير الحكومية، والانسحاب من اتفاقية الحد من التسلح وعدم المصادقة على اتفاقية حماية حقوق الأطفال، والتحقيق مع منظمة الصحة العالمية حول حقيقة انتشار وباء كوفيد، وإلغاء برنامج إعادة توطين اللاجئين، وضم جماعة «الإخوان المسلمين» إلى لائحة المنظمات الإرهابية.
هذا غيض من فيض أريحية الحزب الجمهوري الذي يستنسخ بوقاحة مشهودة مبادئ وأفكار فاشية القرن الماضي ونازيته، ويعلن صراحة أنه يريد أميركا على مقاس دونالد ترامب والكوكلاكس كلان والميليشيات البيضاء. لم يبق من أبراهام لنكولن شيء في هذا الحزب الذي يستلهم خطاب بنيتو موسوليني وأدولف هتلر علناً ويتصرف على أساس أن الانفصاليين ربحوا الحرب الأهلية وبالتالي يحق لهم وضع شروطهم وعلى الآخرين، وخصوصاً الملونين والمهاجرين والسود واللاتينيين والسكان الأصليين، السمع والطاعة.
هذه أميركا كما يراها المحافظون المتدينون، لذلك فإن كل صوت لأي مرشح جمهوري، باستثناء القلة النادرة من الذين رفضوا ترهات ترامب وانقلابه، هو صوت للفاشية، ونحن كعرب أميركيين ليس لدينا ترف التأمل للتمثل بالقول «أكلت يوم أكل الثور الأسود»، في هذه الحالة نحن الثور الأسود والفاشية ستبدأ بنا أولاً وسنكون هدفها المفضل، ولمن يظن أن الموسى لن تطال ذقنه عليه أن يلتفت إلى حقائق بسيطة وراهنة؛ فذوو الأصول اللاتينية مسيحيون وأصحاب اسبقية في هذه البلاد، والسود في معظمهم بروتستانت وأصحاب فضل واضح على نهضة أميركا، وكلاهما كما هو معروف عرضة للتحريض والتشنيع والاستهداف اليومي، ولم تشفع لهم الديانة ولا الأسبقية في شيء.
ومن الآن وحتى إشعار آخر، كل صوت لمرشح جمهوري في الانتخابات القادمة هو صوت للفاشية.
Leave a Reply