جيمس زغبي
حين جلست أكتب هذا المقال بعد عدة أيام من الانتخابات الأميركية، كان جو بايدن يتقدم في عدد كافٍ من الولايات، ليجعل من الواضح أنه سيفوز بأصوات كافية في المجمع الانتخابي تُمكنه من أن يصبح الرئيس الأميركي السادس والأربعين، وما كان واضحاً أيضاً أن «الجمهوريين» سيحتفظون على الأرجح بالسيطرة على مجلس الشيوخ، وأن «الديمقراطيين» فقدوا بعض المقاعد في مجلس النواب التي حصدوها عام 2018 رغم أنهم ما زالوا يحتفظون بالأغلبية في المجلس، إننا بلد شديد الانقسام، وهذا واضح للغاية، وهذه الانتخابات، للأسف، غير عادية، ففي عام 2020، لا شيء عادي وهذه الانتخابات المحمومة جزء من أجواء هذه السنة.
فالرئيس دونالد ترامب لا يستطيع الآن، ولم يكن بوسعه من قبل، أن يتقبل نفسياً واقع أنه خاسر أو أنه في المرتبة الثانية، وحتى حين لا يفوز أو لا يكون الأفضل، فهو يميل لخلق «واقع بديل» يقنع فيه نفسه أنه فاز فعلياً، لكنه ضحية شخص ما غشه، وأن هناك شخصاً ما مسؤول عن الانتكاسة أو أنه ضحية مؤامرة.
وترامب أعد التربة للطعن في الخسارة منذ أن اُنتخب في المرة الأولى رئيساً عام 2016. فلم يقبل فوز هيلاري كلينتون بالتصويت الشعبي، واتُهم بأن هناك الملايين من الأصوات المزورة التي أُضيفت لكلينتون، بل شكّل لجنة رئاسية حزبية لإثبات زعمه، واللجنة كانت مؤلفة من أنصاره لكنها انحلت بعد بضعة شهور، بعد عدم استطاعتها إثبات أي غش واسع النطاق، ورغم هذا، ظل ترامب يطلق هذا الاتهام ذاته بشأن تزوير انتخابات عام 2016. وفي الشهور الثلاثة الماضية، دأب ترامب على الزعم أن «الديمقراطيين» سيحاولون سرقة انتخابات هذا العام، وقدم اتهامات بلا أساس مفادها أن مئات الآلاف من الأصوات بالبريد ستستخدم في سبيل «ملء صناديق الاقتراع»، أو سيجري استبعاد أوراق اقتراع مؤيديه حتى يجري اختيار خصمه.
والواقع أن الهيئات التشريعية في الولايات المختلفة، أدركت الخطر الذي يمثله تصاعد جائحة كورونا ولذا أيدت خططاً، بدعم من الحزبين، لتوفير خيار التصويت بالبريد للناخبين، وأظهرت استطلاعات الرأي أن «الديمقراطيين» كانوا أكثر قلقاً، من المخاطر الصحية المحتملة نتيجة التصويت بالحضور الشخصي، ولذا كانوا أكثر إقبالاً على خيار التصويت بالبريد. لكن في المقابل، انتظرت أغلبية كبيرة من «الجمهوريين» حتى يوم الانتخابات للإدلاء بأصواتهم، ولأن أصوات الناخبين الذين يصوتون بالحضور في مراكز الاقتراع يجري إحصاؤها أولاً عادة في ليلة الانتخابات، حقق ترامب في البداية تقدماً كما هو متوقع، لكن مع بدء إحصاء الأصوات البريدية رويداً، تفوق إجمالي الأصوات التي حصدها بايدن على تلك التي حصل عليها ترامب.
وجاء رد ترامب غاضباً على «تويتر» قائلاً: «أوقفوا العدّ»، وفي بعض المدن، اقتحم أنصاره مراكز الاقتراع ليعبروا عن هذا المطلب، وتقدم محامو الرئيس بعدد من الدعاوى المطالبة باستبعاد كثير من الأصوات البريدية التي تم الإدلاء بها بشكل قانوني، ثم أدلى ترامب بإفادة صحفية صادمة من البيت الأبيض، يوم الخميس الماضي، مشككاً في نزاهة الانتخابات برمتها، وأذهلت تصريحات ترامب عدداً من حكام الولايات «الجمهوريين» وأعضاء مجلس الشيوخ «الجمهوريين» أيضاً، لدرجة أنهم شعروا بضرورة إعلان استنكارهم لتصرف الرئيس.
الواضح أن الرئيس ترامب لن يقبل الخسارة ولن يذعن، وسيسلك كل سبيل ممكن للطعن في النتيجة، فما زال هو وأنصاره يصفون الانتخابات بأنها مزورة وطلب من أنصاره «خوض حرب» للاحتجاج على الانتخابات، والتضليل الإعلامي الذي ينشرونه في العملية برمتها لإثارة الغضب تسبب في ارتباك واضطراب مع احتمال نشوب أعمال العنف، وعدم اليقين الناجم عن كل هذا لن يقود إلا إلى انقسام أعمق وإضعاف للمصداقية، ليس في هذه الانتخابات فحسب بل في كل أساس لديمقراطيتنا، وفي كل الحالات، لن نشهد انتقالاً سلمياً وسلسلاً للسلطة، وهذا واضح.
ومن الواضح أيضاً أن بايدن، حين يؤدي اليمين الدستورية رئيساً للبلاد، سيرث هذا الانقسام والخلل الوظيفي في النظام السياسي، فقد ولت الأيام التي كان يعكف فيها «الديمقراطيون» و«الجمهوريون»، رغم الخلافات، على حل المشكلات الملحة التي تواجهها البلاد، وكي ينجح بايدن، فعليه اتباع القواعد التي وضعها «الجمهوريون»، وكي يقود السفينة، سيضطر إلى إصدار أوامر تنفيذية متجاوزاً مجلس الشيوخ كلما أمكن هذا. وسيتعين عليه أيضاً استخدام الأوامر التنفيذية لنقض الضرر الذي ألحقه إفراط ترامب في اللجوء للأوامر التنفيذية بأنظمة الهجرة واللوائح التنظيمية، وسيتعين على بايدن، وعلى «الديمقراطيين» وعلى «الجمهوريين» أيضاً، التعامل مع واقع سيظل فيه توجه ترامب السياسي قوة فاعلة في السياسة الأميركية.
وحقيقة فوز دونالد ترامب بأكثر من 72 مليون أميركي تعني أن جاذبيته ستظل قائمة، رغم خسارته الانتخابات، ويتعين على «الجمهوريين» اتباع مسعى منظم لترويض هذه الظاهرة وتخفيف حدتها وإلا سيشهدون انحرافاً متواصلاً لحزبهم نحو التطرف، وخطر اندلاع العنف عبر الولايات المتحدة، وهذا واضح أيضاً.
ترامب وأنصار الحزب «الجمهوري» ينشرون استراتيجيتهم منذ أكثر من شهر، إنهم سيواصلون هذا بالطعن في مشروعية هذه الانتخابات في المحاكم، وسيطالبون بإعادة الفرز، وسيحضون أنصارهم على الاحتجاج في مراكز فرز الأصوات، وفي النهاية، سيفقد كثيرون من الأميركيين الإيمان بالعملية الانتخابية، وسيتلطخ ثوب الديمقراطية الأميركية أمام العالم، وهذا واضح.
Leave a Reply