نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لم يكن الفوز المفاجىء الذي حققه «حزب العدالة والتنمية» فـي الانتخابات البرلمانية الأخيرة فـي تركيا فوزاً طبيعياً. لم يحدث فـي أي انتخابات تشريعية أن قفز حزب سياسي بواقع ثماني نقاط خلال أربعة أشهر. لكن «حزب العدالة والتنمية» فعلها فـي تركيا، فبعد الهزيمة المدوّية التي تكبدها فـي انتخابات السابع من حزيران (يونيو) الماضي، بحصوله على 40.9 بالمئة من اصوات الناخبين، ما جعله عاجزاً عن تشكيل الحكومة التركية منفرداً، استرد الحزب الإسلامي المحافظ الغالبية التي تجعله قادراً على الحكم دون شريك، بحصوله على 49.5 بالمئة فـي انتخابات الاول من تشرين الثاني (نوفمبر)، التي أعادته الى مستوى الذروة، باعتبارها النسبة ذاتها التي حصدها بالانتخابات البرلمانية فـي العام 2011، والتي رسخت حضور «حزب العدالة والتنمية» فـي المشهد السياسي، ودفعت رجب طيب أردوغان الى الجنوح بسرعة نحو النزعة السلطانية.
ولعل هذه القفزة بين شهري حزيران وتشرين الثاني تثير الكثير من الملاحظات بشأن ملابسات الانتصار الأردوغاني، وإن كانت تدور حول عنوان عريض هو المناخ غير الطبيعي الذي أصر رجب طيب اردوغان وفريق مستشاريه على أن تجرى الانتخابات البرلمانية فـيه.
وكان واضحاً خلال الأشهر الأربعة الماضية أن أردوغان قد جعل الانتخابات المبكرة، التي دعا اليها غداة فشل الاحزاب التركية فـي تشكيل حكومة إئتلافـية من لدن انتخابات السابع من حزيران، أُم المعارك السياسية، خصوصاً بعدما استشعر خطر الهزيمة قبل أربعة أشهر، لا بل أن كثيرين وصفوا المعركة الانتخابية الحالية بأنها «معركة وجود» بالنسبة الى «حزب العدالة والتنمية».
وتبدّى الطابع الوجودي لهذه المعركة الانتخابية فـي أن أردوغان استخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لاستعادة السلطة السياسية.
وفـي ما يتعلق بالاسلحة المشروعة، يمكن الحديث عن أكثر من تكتيك اعتمده «حزب العدالة والتنمية» لتحسين وضعه، فقد استخلص العبر من نتائج السابع من حزيران وأعاد وضع لوائح المرشحين وفقا لمطالب الحزبيين، بعدما سادت حال من التململ داخل صفوف الحزب الاسلامي على خلفـية الانتقائية فـي اختيار المرشحين.
كذلك، نجح «حزب العدالة والتنمية» فـي تركيز خطابه على الاقتصاد خلافاً لاستراتيجية حملته السابقة التي ركزت على السياسة. وقد أثمرت الوعود الاقتصادية، وتحديداً تلك التي تستهدف المتقاعدين وذوي الدخل المحدود، فـي الانتخابات الأخيرة، بحيث فضّلت شريحة غير مؤدلجة من الناخبين الأتراك منح اردوغان فرصة اضافـية لتحسين الاقتصاد، الذي شهد مؤشرات خطيرة فـي الاونة الاخيرة، أبرزها التراجع القياسي فـي سعر صرف الليرة التركية، وانخفاض النمو الاقتصادي من 8 الى 2 بالمئة، وبلوغ الدين العام ما يقرب من 400 مليار دولار (حوالي 50 بالمئة من الناتج المحلي)، علاوة على ارتفاع مستوى البطالة والتضخم.
أما فـي الاسلحة غير المشروعة، فقد كان واضحاً أن «حزب العدالة والتنمية» قد سخّر كل امكانيات الدولة التركية لمصلحته فـي الانتخابات، التي تحولت الى معركة غير متكافئة.
ولكن الأهم من ذلك أن أردوغان قد عمد الى اثارة التوترات الأمنية الخطيرة سواء فـي الداخل أو فـي الخارج لتخيير الناخبين بين «الاستقرار» و«الفوضى»، معتمداً إستراتيجية تخويف الناخبين، وهو ما تبدّى فـي إعلان الحرب على الأكراد («حزب العمال الكردستاني» و«حزب الشعوب الديمقراطي» على حد سواء)، لا بل التهديد بقتلهم، وهو ما تبدّى حين قال رئيس الوزراء احمد داود أوغلو إن إنزال «حزب العدالة والتنمية» عن الحكم يعني ان سيارات «طوروس البيضاء» سوف تظهر من جديد فـي جنوب شرق الاناضول، فـي اشارة الى سيارات «رينو 12» البيضاء اللون التابعة لأجهزة الأمن، والتي كانت تجول فـي المدن والقرى والبلدات الكردية، لتخطف الناشطين وتصفّيهم.
وفـي سياق الترويع والترهيب، لا يمكن تجاهل أيضاً الهجوم الدموي الذي استهدف الناشطين الأكراد فـي انقرة قبل الانتخابات، والذي أسفر عن سقوط مئات القتلى والجرحى، خلال تجمع انتخابي لـ«حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي، والذي دفع الحزب الى وقف كل مهرجاناته الانتخابية. وبالرغم من أن المواقف الرسمية ذهبت نحو اتهام تنظيم «داعش» بارتكاب هذه المذبحة، إلا إن المعارضين يقولون همساً وعلناً ان الحكومة التركية ربما تكون شريكة فـي هذه الجريمة.
ويضاف الى ذلك كله حملة القمع الممنهجة ضد وسائل الاعلام والناشطين قبل الانتخابات مباشرة.
ولعل ذلك يفسر كيف قفز أردوغان ثماني نقاط فـي هذه الفترة القياسية.
وبحساب رقمي، فإن «حزب الشعب الجمهوري» قد حافظ على نسبة الـ25 بالمئة التي نالها فـي الانتخابات الماضية، فـي مقابل تراجع «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي بواقع نقطتين و«الحركة القومية» بواقع اربع نقاط، وهو يعني، بطبيعة الحال أن «حزب العدالة والتنمية» قد حصل على النسبة الاكبر من النقاط الثماني الاضافـية التي امّنت له الفوز من هذين الحزبين.
ولا شك فـي أن سياسة الترهيب التي اعتمدت خلال الاشهر الماضية كانت من العوامل التي تسببت فـي خسارة الحزب الكردي نقطتين (يضاف الى ذلك التصويت الطبيعي من قبل بعض النخب الكردية، سواء الاقتصادية او الاسلامية، لأردوغان).
ومما لا شك فـيه ايضاً ان الخطاب القومي المتشدد، الذي قدّم أردوغان نفسه من خلاله على انه الشخص الوحيد القادر على تصفـية التمرّد «الكردستاني»، قد فعل فعله فـي صفوف القوميين، وهو ما يفسر انتقال الاصوات من «الحركة القومية» الى «حزب العدالة والتنمية».
وبرغم كل تلك المؤشرات، فإن الكل فـي تركيا يتعامل اليوم مع انتخابات الأول من تشرين الثاني على انها أمر واقع ستكون له تداعياته فـي الداخل والخارج.
وفـي الداخل التركي، يبدو واضحاً ان هذه الانتخابات قد جعلت احلام اردوغان السلطانية أقرب الى الواقع. وما سلوكه فـي اليوم الاول بعد الانتخابات، حين ذهب صباحاً ليصلي فـي «مسجد أيوب» فـي اسطنبول (وهو تقليد كان يتبعه السلاطين العثمانيون الجدد) سوى دليل على ما يجول فـي ذهنه. وما حديثه، فـي أول خطاب بعد إعلان الفوز الانتخابي عن ان تعديل الدستور يمثل أولوية بالنسبة الى البرلمان الجديد، سوى مؤشر الى عنوان المعركة الجديدة فـي تركيا.
وبانتظار ان تكتمل ملامح هذه المعركة المقبلة، حيث تتبدى الاصطفافات الفعلية داخل البرلمان الجديد، الذي يأمل اردوغان فـي ان يستميل 17 عضواً فـيه (من كتل معارضة) لاستكمال الغالبية المطلقة التي تخوله طرح التعديلات الدستورية على الاستفتاء الشعبي، يمكن القول ان السلطان العثماني الجديد سيشحذ كل الأسلحة التي تمكنه من الدخول فـي مغامرة سياسية، يبدو العسكر فـيها هذه المرّة محيّدين، بعد إبعاد الجيش التركي عن اللعبة السياسية بموجب التعديلات الدستورية للعام 2010، وإحالة عشرات الجنرالات للمحاكمة، واقالة الحرس القديم من رئاسة الأركان واستبداله بحرس جديد موال لـ«حزب العدالة والتنمية».
أما فـي الخارج، فهل تفعل نشوة الانتصار التي يعيشها أردوغان هذه الأيام فعلها وتدفعه نحو مزيد من المغامرة فـي الملفات الاقليمية، وتحديداً فـي سوريا، تمهيداً لتحقيق الحلم الاكبر باستعادة أمجاد الماضي.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان الانتخابات الاخيرة فـي تركيا اظهرت الوجه الحقيقي لأردوغان، فالحديث لم يعد يدور عن حكم اسلامي (بنسخة «اخوانية»)، ولا طموحات سلطانية (بنسخة عثمانية جديدة)، وانما عن مزيج عثماني- سلجوقي يعكس رغبة أردوغان فـي تكريس الثنائية الدينية والقومية بوجهها المتشدد.
قبل أعوام، تساءل أحمد داود أوغلو عن السبب الذي يمنع تركيا من تشكيل «كومنولث» يضم كل الدول الإسلامية التي كانت تحت مظلة السلطنة العثمانية على غرار تجربة بريطانيا مع مستعمراتها السابقة. وبعدها بأشهر كان أردوغان يقول إن «أجدادنا السلاجقة أوصونا بسوريا» لعل هذين الموقفـين يعبّران بوضوح عمّا يجول فـي أذهان العثمانيين الجدد فـي أنقرة!
Leave a Reply