لن يكون من الصعب على اللبنانيين التعود على مفردات جديدة في قاموس خلافاتهم السياسية الذي لطالما طرأت عليه تحديثات وتجديدات منذ عهد اللبنانيين بأزماتهم المتوالدة، وهو عهد يعود إلى مرحلة ما قبل ”الاستقلال” ويستمر على رأس كل عقد أو عقدين من الزمن بتحالفات واصطفافات مختلفة عن سابقاتها.
على أبواب الانتخابات النيابية التي يفصل اللبنانيين عن موعدها شهر واحد بدا من المسلي مشاهدة حفلات الزجل الانتخابي على شاشات التلفزة التي تنازلت عن مساحة من برامجها الترفيهية لأجل ”الترفيه” عن اللبنانيين بوصلات من التزاجل الانتخابي لرؤوساء الكتل الذين يتعدون بقليل عدد أصابع اليد الواحدة.
فقد انبرى النائب سعد الحريري أمام حشد من الأنصار في ملعب النجمة ليخاطبهم بلغة تعبوية استعادت أحداث السابع من أيار العام ٢٠٠٨ كمادة انتخابية دسمة لرص صفوفهم وتحذيرهم من مغبة انتصار المعارضة في الانتخابات، وما سيكون لذلك من تداعيات على ثورة الأرز و”الحركة الاستقلالية” ومستعيداً إرث الشهيد رفيق الحريري ”في إعادة بناء الدولة وإرساء الاستقرار المالي الذي صمد أمام أضخم وأخطر أزمة عالمية بقي لبنان حتى الآن في منأى عن آثارها السلبية”.
لم يستمع زعيم ”المستقبل” الى نصائح حليفه النائب وليد جنبلاط قبل يوم واحد، باعتماد الخطاب الهادئ في ٧ أيار، فذهب إلى نعت ما قام به ”حزب الله” وحلفاؤه في العاصمة اللبنانية قبل عام ”بالعمل الجنوني”. حرص الحريري الابن على استحضار تلك الأحداث وإدراجها في حملته الانتخابية كتعويض، على الأرجح، عن الضربة المعنوية التي أصيب بها فريق الرابع عشر من آذار جراء إطلاق الضباط الأربعة من السجن قبل أسبوع.
لا محرمات ولا محظورات إذا، على أبواب انتخابات يضع فريقا الصراع السياسي ثقلهما للفوز فيها استعداداً لجولة جديدة من الصراع السياسي الذي سيلي تلك الانتخابات ويتطلب على الأرجح ”دوحة” جديداً لترقيع الثوب الطائفي اللبناني مجدداً بعد مرور حوالي السنة على أحدث عملية ترقيع تطاله بعد أحداث كادت تدخل البلاد في فتنة مذهبية لا تحمد عقباها.
من جهته كان ”حزب الله” المطمئن إلى ساحته الانتخابية والمنشغل بحياكة حل لعقدة تصادم المصالح الانتخابية لحليفيه الجنرال ميشال عون والرئيس نبيه بري يخوض في الأيام الماضية معركة إعلامية غير مسبوقة ضد تيار المستقبل يظللها حدث إطلاق الضباط الأربعة، ويبرز موقفاً سياسياً فاقع الوضوح في مناهضته للمحكمة الدولية وادعائها، وصل الى حد استباق أي قرار يصدر عنها بالرفض وملوحاً بالعودة الى الشارع لإرغام القضاة المسؤولين عن احتجاز الضباط على التنحي، وهو موقف لامس الخلاف مع رئيس الجمهورية ”التوافقي” الذي لم يخف انزعاجه من التعرض لمؤسسة القضاء وإبداء التعهد بحمايتها من التدخلات السياسية.
أما الجنرال عون فقد بدا وهو يعرض ”برنامجه الانتخابي” منجذباً إلى تعرية ”زمن الوصاية” ورموزه دون تمييز بين خصومه وحلفائه ومستعيداً وقفاته ضد ما كان يسميه احتلالاً سورياً للبنان، مذكراً الحشد في قاعة فندق ”حبتور” كيف أن رفعهم للأعلام اللبنانية في ذلك الزمن كان يجلب لهم القمع والاضطهاد. بدا الجنرال عون للحظات ”١٤ آذارياً” ينهل من قاموس الحرية والسيادة والاستقلال وهي مفردات غابت عن قاموسه السياسي منذ ما بعد انفراط عقد ”التحالف الرباعي” الذي أملاه الزلزال السياسي باغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم يعرض الجنرال عون ”برنامجاً انتخابياً”. بل عرض لمساوئ إبقاء الأكثرية الحالية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دون الخروج عن السياق العام لـ”البرامج الانتخابية” لدى كل رؤوساء الكتل والتي تنبني على تعرية ”مساوىء” الخصم، دون طرح أي رؤية إصلاحية ملموسة المعالم المادية والزمنية.
ويبقى ”الصامت الأكبر” حتى الآن رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي لا يختلف في اطمئنانه إلى ساحته الانتخابية عن حليفه الشيعي ”حزب الله”، لكنه يتوجس من الاندفاعة الجامحة لـ”حليف حليفه”. الجنرال السياسي الذي ”هدد” قبل أشهر على لسان صهره الوزير الحالي جبران باسيل بـ”استرداد جزين” ما دعا بعض نواب كتلة الرئيس بري إلى الرد على صهر الجنرال بسؤاله: هل أن جزين محتلة كي يحررها الجنرال عون؟ ورغم الجهود المضنية والتضحيات ”النيابية” التي قدمها ”حزب الله” على مذبح رأب الصدع الانتخابي بين عون وبري ظلّت جزين ومعها بعبدا بلا حل وأحيلت إلى ”معركة رياضية”، يعتقد الجنرال عون أنها سيربحها ضد رئيس المجلس المحنك الذي بعث له قبل أشهر برسالة ذات مغزى عندما أوحى لنائبه الجزيني سمير عازار بالدعوة إلى مقاطعة احتفال في المدينة بمناسبة زيارته لها ضمن جولة نظمها له ”حزب الله” في مناطق الجنوب اللبناني وقد فوجئ الجنرال عون بضآلة عدد المستقبلين آنذاك!
سيمضي اللبنانيون فترة الثلاثين يوماً المتبقية على موقعة ٧ حزيران الانتخابية بمشاهدة أقطاب اللعبة الداخليين وهم يستعرضون عضلاتهم الانتخابية ويزعمون فوزاً مؤكداً فيها، ليكون لما بعد الموقعة حديث آخر عن ”الشراكة الوطنية” وحتمياتها و”الوحدة الوطنية” وضروراتها. وكما تنتهي حفلات الزجل اللبناني في أغلب الأحيان بانقسام الجمهور حول الفائز، يذهب الزجالون بغنائمهم ويشرعون في التهيئة لحفلة جديدة، بعناوين مختلفة طالما أن الجمهور ”باق على العهد” وقابل للاستنفار غب الطلب.
هذا عن اللعبة الداخلية وديكوراتها وإكسسواراتها وأضوائها المبهرة. أما ما وراء المسرح وفي قمرة ”الإخراج” فذلك شأن لا يريد اللبنانيون بأغلبيتهم الالتفات إليه طالما أن متعة العرض تغني عن التدقيق في المعروض، وطالما أن بضاعة المخرج تلقى رواجاً لدى المشاهدين.
لِمَ يحتاج المخرج إلى ”نص” أرقى إذا كان الاستهلاك الشعبوي في أوج ازدهاره. وهل من فائدة للسؤال عما ينتظر لبنان دولة و”شعوباً”، إذا كان الانطباع السائد أن انتخابات ٧ حزيران هي ”نهاية الدنيا” اللبنانية التي ستخضع التاريخ إلى مشيئتها وتجلب متآمري العالم إلى ”بيت الطاعة” اللبناني؟
ومن يسأل عن مغزى خطاب أحمدي نجاد في دمشق عن ”الحرب حتى التحرير” وعن ”أن الأميركيين يركضون الآن وراءنا ووراء السوريين”، وعن الهجوم الإعلامي المصري غير المسبوق على الممانعة و”استغلالها للقضية الفلسطينية” وعن ”الخطر النووي الإيراني الذي لا يقل عن الخطر النووي الإسرائيلي”؟ من يسأل ماذا جاء يفعل شمعون بيريز في البيت البيض، قبل رئيس وزرائه نتنياهو، ولماذا يحاول وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس طمأنة ”عرب الاعتدال” حول انفتاح بلاده على إيران، وما معنى الحديث عن ”حلف البراغماتيين” في المنطقة الذي تنشده إسرائيل في مواجهة ”الخطر الإيراني”؟ ولماذا حضرت مادلين أولبرايت إلى بيروت تحت عنوان التأكد من نزاهة العملية الانتخابية؟! وغيرها الكثير من الأسئلة التي يعتقد اللبنانيون بسذاجة أن انتخاباتهم (إن جرت) ستجيب عنها!
وأخيراً من يضمن أن كرنفال الانتخابات سينتهي على خير؟! إنه كرنفال الهروب من الأسئلة الكبيرة إلى مهرجانات إعلان اللوائح والوعود بـ”النصر” التي لم تجلب إلى لبنان الدولة والكيان سوى المزيد من الهزائم.
Leave a Reply