الانتخابات اللبنانية: من يجرؤ على “الانتصار”؟
يتعاطى اللبنانيون من مؤيدي جماعتي “١٤ آذار” و”٨ آذار” مع الانتخابات النيابية في السابع من حزيران المقبل بوصفها معركة تسجيل أهداف لصالح هذه الجماعة أو تلك. وشرع هؤلاء بحبس الأنفاس تمهيداً للموقعة الكبرى التي يأمل كل فريق أن تأتي نتائجها لصالح تمنياته وطموحاته. ولا تخلو مواقف “الجماهير” على ضفتي الانقسام اللبناني من مواقف التشفي المسبق بالفريق “الخاسر” دون أي تمحيص بمفهومي الربح والخسارة في اللعبة الانتخابية التي يديرها حكام إقليميون ودوليون، أرخوا قبضاتهم عن رقاب اللاعبين مؤقتاً تاركين لهم حرية حراك نسبية، لكنها تظل محكومة بـ”صفارات إنذار” تنطلق عند الحاجة لإعادة السيطرة على اللعبة والخروج منها بالتعادل السلبي.
على أن النظرة إلى هذه الانتخابات على المستوى القيادي لدى الجماعتين المتصارعتين على “هوية لبنان” ودوره تتسم، بخلاف النظرة الجماهيرية، بقدر كبير من التهيب لما قد تأتي به النتائج. ولولا الخشية من إحباط “الجماهير” لكانت تلك القوى القيادية عبرت علناً عن خشيتها من الفوز. وقد سمعنا شيئاً من هذا القبيل على لسان أكثر القادة اللبنانيين جرأة في توصيف “الحقائق اللبنانية”، النائب وليد جنبلاط، الذي عبر عن “زهده” بالنصر الانتخابي قائلاً قبل أسابيع قليلة: “ماذا ينفعنا لو ربحنا الانتخابات وخسرنا السلم الأهلي”.
وإذ كثر الحديث خلال الأشهر القليلة الماضية عن “مصيرية” الانتخابات المقبلة لدى جماعة “١٤ آذار”، قوبل ذلك من قبل الجماعة الأخرى المناهضة (٨ آذار) بالتقليل “المدروس” من شأن هذه الانتخابات وما قد تتمخض عنه من نتائج، عندما وصفت بأنها “محطة” لا تحمل من “المصيرية” شيئاً. ووصف “المحطة” في القاموس السياسي اللبناني يعني أساساً أن الصراع الأهلي-الطائفي بأوجهه العنفية أو “السلمية” هو سلسلة متواصلة تفصل بينها محطات تخدم عملية إعادة تقييم للمرحلة التي أدركها الصراع لأجل الانطلاق إلى مرحلة جديدة، بظروف قد تكون أشد أو أخف وطأة، تبعاً لبارومتر العلاقات العربية والإقليمية والدولية الذي يؤشر دائما الى حال الطقس السياسي اللبناني، هدوءاً أو توتراً.
ثمة إجماع، أو شبه إجماع، لدى المراقبين للشأن الانتخابي أن هذه العملية قد حسمت بنسبة كبيرة قبل إجرائها، منذ اللحظة التي نكص أقطاب الطبقة السياسية الطائفية المتحكمة بالشأن الداخلي وعلاقاته المعقدة، عن اعتماد قانون انتخابي عصري ينتج تمثيلاً وطنياً سليماً ويعيد جزءاً من اللحمة إلى النسيج الوطني الذي تعرض للهتك الشنيع خلال السنوات الأربع الماضية، بفعل الانقسام المذهبي والاغتيالات والتفجيرات، قبل أن تهدأ العاصفة الإقليمية التي هبت على لبنان منذ اغتيال رئيس وزراءه الشهيد رفيق الحريري والخروج العسكري السوري، باتفاقية الدوحة التي فرضتها توازنات إقليمية وداخلية مستجدة، على وقع سيطرة المعارضة على العاصمة بيروت وفرض حقائق جديدة على الأرض، لكن دون أن تتمكن من ترجمة الحسم الميداني بحسم سياسي، ظل وسيظل رهناً بما تؤول إليه الترتيبات الجديدة التي يجري إعدادها للمنطقة، منذ وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض واعتماده مقاربات مختلفة للملفات الساخنة فيها من العراق الى فلسطين ولبنان وصولاً إلى مثلث الأزمة الجديد والخطير في باكستان وأفغانستان والهند.
لا يضير القوى الطائفية الممسكة بخناق العملية الانتخابية صراخ “جماهيرهاً” وتشجيعها لهذا الفريق أو ذاك، حتى لو تحول هذا الصراخ إلى اشتباك دموي محدود وخاضع للسيطرة، طالما أنه يفي بغرض إشباع الغرائز الطائفية التي عمل الفريقان على تأجيجها طيلة السنوات الماضية، وطالما أنه يخدم هدف تكريس المحاصصة الطائفية وإعادة توزيع مواقع نفوذها وإجراء عمليات “تجميل” لها هنا وهناك.
ولعل أطرف وصف “للمعركة” الانتخابية الدائرة رحاها هذه الآونة هو ما صدر عن أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة المحبط من “عدم وفاء” المعارضة له بمنحه مقعداً نيابياً، رغم مثابرته في الأشهر الماضية على مغازلتها وإغوائها بالصوت الشيوعي “الحليف” حتى صدور اللوائح وإعلان الأسماء. يقول حداده إن حزبه قرر خوض الانتخابات “بصورة مستقلة” ضد استئثار الغالبية والأقلية الطائفيتين اللتين لم تستمعا لنداءات الإصلاح (!) الأمر سيكون مختلفاً بالطبع لو جادت المعارضة على الحزب اللبناني الجماهيري العريق بمقعد نيابي!.
وجه آخر من وجوه طرافة المعركة الانتخابية تمثل في موجة الاستنكار لإعلان رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ترشحه عن المقعد السني في مدينة صيدا، والأطرف أن المستنكرين ينطلقون من “حرصهم” على علاقة المدينة “السنية” بمحيطها “الشيعي”، كأن قانون القضاء الانتخابي لم يعتمد من أجل أن تنتخب كل طائفة نوابها، بل من أجل إصلاح العلاقات الطائفية والمذهبية!
والطريف أيضاً أن اللبنانيين عندما يتناولون شأنهم الانتخابي يغالون في تصور النتائج ومترتباتها بمعزل عن أي مؤثر خارجي ولا يتذكرون أقرب الأحداث وأبرزها عندما عمد اللاعبون الكبار إلى سوقهم مخفورين بشبح حرب أهلية متجددة، مذهبية هذه المرة، الى طائرة “أميرية” أقلتهم إلى الدوحة حيث جرى “توقيفهم” في أحد “معتقلاتها” الفخمة ولم يخرجوا منه إلا “بكفالة” عدم اللجوء إلى العنف وتحقيق مشاركة في السلطة توهم أحد الفريقين (١٤ آذار) أن بإمكانه احتكارها بدعم عربي-دولي، وتحت شعار “ديمقراطي” يعطي الأغلبية حق الحكم والمعارضة حق الاعتراض!
والحال أن الوضع اللبناني سيظل في حالة ترقب وانتظار بعد الانتخابات مهما كانت نتائجها. فلا جماعة ١٤ آذار قادرة على الحكم إن فازت، بفعل السيطرة التي يمكن أن يفرضها فريق المعارضة بقيادة “حزب الله” الأقوى جماهيرياً وعقائدياً و”ميدانياً” (تجربة ٧ أيار ما تزال ماثلة)، ولا جماعة ٨ آذار بقيادة “حزب الله” قادرة على الانفراد بالسلطة لأسباب اقتصادية-سياسية-إقليمية ودولية تهدد بجعل لبنان “غزة ثانية” وهو ما لا قبل للمعارضة وجمهورها بتحمله على المدى الأبعد.
ويبدو أن المنقذ الوحيد من ورطة “الانتصار” في الانتخابات المقبلة يتمثل بقيام كتلة وسطية يؤمل بداية تبلورها في الوسط المسيحي برعاية غير منظورة من رئيس الجمهورية التوافقي، وبتواطؤ من أطراف في كلا فريقي الموالاة والمعارضة.
أليس أمراً ذا مغزى قول وليد جنبلاط إن “٨ حزيران” هو يوم آخر وإصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري على عدم “التبرع” بأي مقعد نيابي لصالح “حليف حليفه” الجنرال ميشال عون؟
من قال بأن الكتلة الوسطية هذه لن يصنعها أقطاب “الانقسام” إياهم، للخروج بالبلد من عنق الزجاجة، ولإنقاذ أنفسهم من حرج “انتصار” مكلف، قد يكون ضحيته السلم الأهلي ومصالحهم السياسية التي لا يلبيها سوى لبنان أكثر استقراراً، وأقل استتباعاً لخارج لا يراعي في رسم مصالحه مصلحة البلد الصغير الذي “نفخه” أبناؤه أكثر من اللزوم، ليتسع لخلافات العالم حتى بات مهدداً بالانفجار والتشظي فوق رؤوس الجميع؟
هل يتواضع اللبنانيون قليلاً، ويدركون أن انتخاباتهم لا تقرر مصير العالم؟!
Leave a Reply