وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
أنجز لبنان استحقاقه الانتخابي الذي شكك في إتمامه كثيرون، بالنظر إلى الوضع المضطرب الذي يعيشه هذا البلد على المستويات كافة، فضلاً عن توترات الإقليم والتجاذبات الداخلية التي تزيد أزماته تعقيداً.
وبخلاف ما روّجه بعض وسائل الإعلام المحلية والعالمية عن خسارة «حزب الله» وحلفائه في هذه الانتخابات، ورغم حملات الاتهام التي شُنّت على سلاح المقاومة وتحميله مسؤولية الانهيار الذي تشهده البلاد، ورغم الجهود التي بذلت لتأليب بيئته الحاضنة، جاءت نتائج الانتخابات بصورة مغايرة، إذ حافظ «حزب الله» وحلفاؤه على أكبر كتلة في البرلمان، فيما لم تتمكن القوى المناوئة للمقاومة، من ملء الفراغ الذي خلّفه انكفاء «المستقبل» عن المعركة الانتخابية رغم التقدم الذي حققته «القوات اللبنانية»، غير أن المستقلين ومرشحي «قوى التغيير» كانوا الرابح الأكبرفي انتخابات الأحد الماضي بحصدهم عدداً غير متوقع من المقاعد.
الانتخابات التي أجريت يوم الأحد الماضي في 15 دائرة، هي: بيروت (دائرتان)، الجنوب (3)، الشمال (3)، جبل لبنان (4) والبقاع (3)، شهدت نسبة إقبال بلغت 49.68 بالمئة، بعدما أدلى نحو 1.8 مليون ناخب من أصل 3.7 مليون، بأصواتهم، لاختيار 128 نائباً موزعين على الطوائف كافة وفقاً لقانون الانتخاب اللبناني الذي تقام على أساسه الانتخابات للمرة الثانية بعد العام 2018.
وقد احتلّت دائرة جبل لبنان الأولى، المرتبة الأولى من حيث نسبة الاقتراع عند 66.5 بالمئة فيما احتلّت دائرة بيروت الأولى المرتبة الأخيرة بنسبة 33.2 بالمئة.
وفقاً للنتائج، سيضم البرلمان الحالي بين أعضائه ثلاثة نواب فازوا بأقل من 500 صوت واثنين فازا بأقل من ألف صوت وهؤلاء جميعاً من اللوائح المنافسة لحلفاء المقاومة. وهذا ما يدحض بوضوح، إضافة إلى ما سبق، ما زعمه رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة من أن الانتخابات أظهرت وبوضوح رفض الشارع لـ«حزب الله»، علماً بأن السنيورة نفسه هُزم في انتخابات بيروت، ولم يفز أحد من لائحته (بيروت تواجه) سوى النائب والوزير السابق خالد قباني(3,433 صوتاً تفضيلياً) رغم أنها كانت تضم أسماء بيروتية عريقة، رغم كل الدعم والمال السياسي الذي حصلت عليه، فيما حصل النائب أمين شري المرشح عن المقعد الشيعي في دائرة بيروت الثانية من لائحة «وحدة بيروت» على 36,962 صوتاً تفضيلياً بزيادة نحو أربعة آلاف صوت عن الانتخابات السابقة.
كذلك، غيّبت انتخابات الأحد الماضي أسماء كثيرة لم يحالفها الحظ كانت تعد من الثوابت على مدى سنوات طويلة، فيما برزت وجوه جديدة محققة خروقاً في معاقل اللوائح الكبيرة، إضافة إلى عدد لا بأس به من المستقلين.
الحديث عن تجاوزات قانونية شابت العملية الانتخابية كان خجولاً، باستثناء نية لدى النائب السابق فيصل كرامي بتقديم طعن في النتيجة بعد خسارته بعشرات الأصوات في طرابلس، بالإضافة إلى المرشح المستقل جاد غصن، الذي خسر بفارق مماثل في دائرة المتن، وقد يلحق بهما آخرون في غضون مهلة ثلاثين يوماً لتقديم الطعون.
بورصة أسماء الفائزين شهدت تخبطاً كبيراً –ربما يحدث للمرة الأولى– حيث عاش عدد من المرشحين نشوة الفوز، لتخيب آمالهم بعد ساعات أو في اليوم التالي بعدما يتبيّن سقوطهم. وقد تكرّر الأمر مرات عديدة مع بعض المرشحين، مثل نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي والنائب نديم الجميل وبولا يعقوبيان والنائب فيصل كرامي والمرشح جاد غصن، واللائحة تطول، هؤلاء ناموا مطمئنين إلى نجاحهم، ليصحوا في اليوم التالي وقد تبدلت النتيجة رأساً على عقب!
وربما كان أبلغ تعبير عن الخيبة هو ما أعلنه حزب «القوات اللبنانية» بعد ساعات قليلة من إقفال صناديق الاقتراع من أنه حصد العدد الأكبر من المقاعد، وأنه انتصر هو وحلفاؤه، وبات الطرف الأقوى مسيحياً، ما يعني تراجع «التيار الوطني الحر» وهزيمته انتخابياً وسياسياً، لتنقلب النتيجة في اليوم التالي، فتتقلص كتلة «القوات اللبنانية» إلى 19 نائباً وتصبح كتلة التيار 22 نائباً (مع نواب الطاشناق)، ليبقى بذلك «التيار» على رأس أكبر كتلة مسيحية في البرلمان القادم.
وأظهرت نتائج الانتخابات، داخل لبنان وقبلها في 58 بلداً، تراجع عدد مقاعد «حزب الله» والتيار «الوطني الحر» وحلفائهما من 71 إلى نحو 60 نائباً، فيما المقاعد الـ68 المتبقية توزعت على قوى مختلفة بعضها قريب من الرياض وواشنطن، وبعضها الآخر مستقل.
ومع وجود ثلاث تكتلات أساسية ونواب آخرين مستقلين، فإن «الأغلبية البرلمانية» لم تعد محصورة بيد فريق سياسي معين، إنما بات الثقل موزعاً في عدة اتجاهات.
هذا كله حدث وسط حرب سياسية وإعلامية شعواء شُنت على التيار العوني وفريق «8 آذار»، من قبل السعودية والولايات المتحدة، باعتراف مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر الذي أقرّ بالفم الملآن بأنه كُلّف بإضعاف «حزب الله» وحلفائه قبل الانتخابات.
غير أن الأرقام أثبتت عدم تراجع حلفاء المقاومة في البرلمان الجديد حيث فاز «حزب الله» بـ15 مقعداً، و15 مقعداً لـ«حركة أمل»، و22 مقعداً لكتلة «التيار الوطني الحر» و«الطاشناق»، ومقعدين لتيار «المردة»، ومقعد لكل من جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) و«حزب الاتحاد».، بالإضافة إلى ثلاثة مقاعد حصدها مستقلون متحالفون مع «حزب الله». غير أن ذلك لا يعني أن حلفاء المقاومة لم يتلقوا أية هزائم، إذ أقصت الانتخابات أي تمثيل للحزب «السوري القومي الاجتماعي» و«الحزب الديمقراطي» بزعامة طلال أرسلان، فضلاً عن خسارة شخصيات بارزة مثل وئام وهاب وإيلي الفرزلي.
وعلى الجانب الآخر، ورغم التقدم الذي حققه «القواتيون» وحفاظ «الكتائبيين» على مقاعدهم، وكذلك «الحزب التقدمي الاشتراكي»، تراجعت قوى ما كان يسمى بـ«14 آذار» بشكل ملحوظ لصالح المستقلين وقوى التغيير.
فالحراك الشعبي الذي بدا مشتتاً عشية الانتخابات وخاض السباق بلوائح متنافسه أفقدته إمكانية الخرق بعدد أكبر من المقاعد، فوصل عدد نوابه إلى 14 نائباً، فيما قوى المعارضة التقليدية والشخصيات المستقلة المعارضة نالت 10 مقاعد. هذا فضلاً عن 16 مقعداً لنواب مستقلين من مختلف الطوائف وعلى رأسهم النواب السنّة الذين ترشحوا من خارج عباءة «تيار المستقبل».
اختراقات ومفاجآت
أبرز الخروقات التي تعرضت لها اللوائح الكبيرة، والتي تستحق تسليط الضوء عليها أكثر من غيرها، هي تلك التي حصلت في كل من الجنوب وبشري بجبل لبنان، حيث خرق المرشحان الياس جرادي وفراس حمدان لائحة «الوفاء والأمل» على حساب كل من المصرفي المرشح عن المقعد الدرزي مروان خير الدين، وأسعد حردان عن الحزب السوري القومي(روم أرثوذكس). أما في بشرّي حيث معقل «القوات اللبنانية»، فقد خرق لائحتها المرشح وليم طوق.
لكن الدلالات الأهم كانت في دائرة الشوف–عاليه، حيث أخرجت لائحة «توحّدنا للتغيير» كُلاً من وهاب وأرسلان وحصلت اللائحة على 3 مقاعد لكل من: مارك ضو عن مقعد ارزي وحليمة القعقور عن مقعد سنّي ونجاة صليبا عن مقعد ماروني.
وفي دائرة صيدا–جزين سُجل فوز لافت للائحة «ننتخب للتغيير» بثلاثة مقاعد لكل من النائب الدكتور أسامة سعد والدكتور عبد الرحمن البزري عن المقعدين السنيين في صيدا، والدكتور شربل مسعد عن أحد المقعدين المارونيين في جزين، ومن بين الخاسرين أيضاً النائبان زياد أسود وأمل أبو زيد عن «التيار الوطني الحر»، والنائب الجزيني ابراهيم عازار المدعوم من «أمل»، بخلاف المتوقع، ليفوز حزب «القوات اللبنانية» بمقعدين في جزين لكل من غادة أيوب بو فاضل عن المقعد الكاثوليكي وسعيد الأسمر عن المقعد الماروني.
وتعليقاً على نتائج الانتخابات، ألقى رئيس المجلس النيابي نبيه بري خطاباً متلفزاً، يوم الثلاثاء الماضي، قال فيه إنّ «الجميع مدعوّ إلى الاحتكام إلى قرارات الناس»، متمنياً أن تكون نتائج الانتخابات «يوماً لبنانياً يلتقي فيه اللبنانيون على نبذ خطاب الكراهية»، داعياً إلى «تهدئة كل الرؤوس الحامية».
من جهته، رحّب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في كلمة متلفزة، بإنجاز الاستحقاق الانتخابي، داعياً إلى تهدئة السجالات الإعلامية للالتفات إلى الأزمات الخانقة التي تعصف باللبنانيين.
وفي ختام اليوم الانتخابي، قال رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، إن «التيار لم يكن في معركة مع القوات والاشتراكي والكتائب وأمل وغيرهم، بل بمعركة بدأت بحدّ أدنى في 17 تشرين مع الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما». وأكد باسيل أن «لدينا الكتلة والتكتل الأكبر في المجلس النيابي على الرغم من إعلان البعض انتصاره الوهمي مُجدِّداً «من موقع المنتصر»، وفق تعبيره، دعوته إلى الحوار مع الجميع. بدوره، أعلن زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية عن قبوله بالنتائج رغم خسارته لمقعدين، قائلاً: «زمطنا بريشنا بعد هذه المعركة ويجب التطلع إلى الأمام والتعاون للنهوض بالبلد من نكبته».
وليد جنبلاط بدوره، غرد عبر «تويتر» قائلاً إن حزبه قد «صمد ونجح»، رافضاً تخوين أحد ومحاولات الإلغاء بأي شكل من الأشكال مؤكداً على أهمية الإصلاح.
غير أن رئيس «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، كان في أول الساعين إلى رفع وتيرة الخطاب السياسي بعد الانتخابت حيث أكد في مؤتمر صحفي عقده عقب أول اجتماع لكتلته النيابية (19 نائباً)، أن «التكتلات التي أنتجتها الانتخابات متفقة أقله على نقاط أساسية رئيسية هي السيادة ووجود سلاح خارج الجيش اللبناني وموضوع الفساد». وأضاف: «نحن أكبر كتلة في المجلس، وسنتحمل مسؤوليتنا على هذا الأساس» مؤكداً أنه لولا «حزب الله» لكان «التيار الوطني الحر» فقد العديد من المقاعد.
وأكد جعجع، الذي يقدم نفسه على أنه الشخصية الأقوى مسيحياً، أن قول زعيم «حزب الله» حسن نصرالله بأن لا أكثرية لأحد في المجلس، «اعتراف بأنه فقد الأكثرية».
رئاسة مجلس النواب
لم يتوان جعجع عن فتح معركة رئاسة مجلس النواب مبكراً، رغم أنها عملياً غير واقعية، إذ ينص الدستور اللبناني على أن يتولى المنصب نائب شيعي غير أن لوائح «حزب الله» وحركة «أمل» فازت بجميع المقاعد الشيعية الـ28 في البرلمان.
جعجع الذي يسعى لكسب المستقلين وقوى التغيير عبر التصويب على الرئيس نبيه بري، أوضح أن لدى «القوات» مواصفات واضحة جداً لرئيس مجلس النواب لا تنطبق على بري، مشيراً إلى أنه على أي مرشح جدي أن يتعهد بتطبيق النظام الداخلي للمجلس حرفياً.
وأفاد بأن «الأمور ليست شخصية مع بري، ولكن تموضعه السياسي مختلف تماماً عن مشروعنا، وسنرى من يسير بمشروعنا والمواصفات التي طرحتها».
وإلى جانب جعجع، أعلنت كتل نيابية ونواب قوى الاعتراض رفض التصويت لبري، ما يجعل من الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد استحقاقاً لن يمُرّ على ما يبدو بسلاسة كما في السنوات الماضية، ولا سيما أن الأصوات التي من المرجح أن ينالها بري ستكون الأدنى منذ عام ١٩٩٢. ويُخشى أن تنعكس هذه الأزمة الجديدة شللاً في البرلمان على غرار ما كان يحصل في استحقات تشكيل الحكومة ورئاسة الجمهورية، ما استدعى استنفاراً سياسياً للبحث عن «تسوية» تؤمن مخرجاً يحفظ ماء وجه بري الذي لا منافس له.
وتكمن المشكلة في أصل انعقاد الجلسة التي تحتاج إلى نصاب التئام، هو 65، إذ يحتاج الانتخاب في الدورة الأولى إلى الأكثرية المطلقة وإلى الأكثرية النسبية في الدورة الثالثة وما فوق. ويتخوف مراقبون من مقاطعة نواب «١٧ تشرين» والكتل السياسية التي ترفض انتخاب بري، للجلسة، ما يحول دون تأمين النصاب، وتدخل البلاد في الشلل.
وبحسب الدستور، يجب أن تتم الدعوة للجلسة الأولى في غضون 15 يوماً من بدء ولاية البرلمان الجديد في 22 أيار الجاري، ولكن لا يعني عدم حصولها خلال هذه المهلة أنه لا يعود بالإمكان إجراؤها خارجها.
ومن بين الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم إنعقاد الجلسة في أوّل 15 يوماً من عمر المجلس، عدم اكتمال النصاب، أو عدم مبادرة رئيس السن إلى الدعوة، وهو –للمفارقة– بري نفسه.
ووسط هذه الأجواء، تنتظر اللبنانيّين أيام طويلة من المناقشات الجارية بين القوى التقليدية والنواب الجدد قبل تبلور صورة الموقف على صعيد الكتل النيابية وتوجّهها، علماً بأن الأميركيين تحرّكوا سريعاً لخلق إطار يجمع غالبية النواب الجدد ضمن إطار موحد. وكان ثمانية من هؤلاء قد التقوا في فندق بمحلة بدارو، في لقاء اتّسم بطابع بروتوكولي. وبحسب معلومات نقلتها صحيفة «الأخبار»، غاب عن اللقاء كل من: أسامة سعد، شربل مسعد، مارك ضو، عبد الرحمن البزري، ميشال الدويهي والياس جرادة، لأسباب وارتباطاتٍ شخصية لا خلافية. وأفادت المعلومات بأن الاجتماع هدفه المزيد من التعارف ودراسة إمكانية التجمع في كتلة نيابية، انطلاقاً من مسؤولية ملقاة على عاتقهم، والظروف التي تستدعي وضع برنامج تشريعي مشترك يكون محور مواجهتهم في البرلمان. وفيما لم يصدر عن الاجتماع أي موقف أو بيان، أبقى المجتمعون النقاش مفتوحاً.
وتعتبر معركة رئاسة مجلس النواب أولى التحديات أمام البرلمان الجديد الذي عليه أيضاً أن ينتخب رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وسط أوضاع اقتصادية ومعيشية مزرية.
Leave a Reply