نبيل هيثم – «صدى الوطن»
بعد مرور 15 عاماً على الانتفاضة الثانية إثر الزيارة الاستفزازية التي قام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ارييل شارون للمسجد الأقصى، برفقة قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي، تتشابه اليوم الحالة الفلسطينية مع ما حدث فـي مطلع الالفـية الثالثة، حتى ان المحللين الاسرائيليين يقولون فعلاً أن ثمة انتفاضة ثالثة تطرق الابواب.
ولعل مجموعة من العوامل تؤكد هذا الامر، أولها انسداد أفق التسوية للصراع العربي-الاسرائيلي، فـي ظل «تغوّل» اليمين الصهيوني، الذي لم يعد حضوره مقتصراً على اجهزة الحكم، بل بات مزاجه يحكم الشارع الاسرائيلي، وخصوصاً فـي ما يتعلق بالأجنحة الأكثر تطرفاً فـي هذا المعسكر، والمقصود بها تحديداً اليمين الديني واليمين الاستيطاني.
هذا «التغوّل» تبدّى خلال الفترة الماضية فـي سلسلة من التحركات الاستفزازية، والعمليات الاجرامية، تمثلت بداية فـي التعنت الذي ابداه رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو تجاه كل الدعوات الدولية لتحريك العملية التفاوضية، حتى ان الاخير اغضب الحليف الاميركي، الذي سرّب قبل اسبوعين معلومات مثيرة للانتباه، مفادها ان الرئيس باراك أوباما لن يلجأ بعد اليوم الى استخدام حق النقض «الفـيتو» ضد اي قرار فـي مجلس الامن الدولي لقيام الدولة الفلسطينية.
وعلاوة على الموقف السياسي المتصلب، فإن تحركات المستوطنين، وجرائمهم بحق الفلسطينيين على امتداد الاراضي المحتلة، قد اسهمت فـي تأجج الغضب الشعبي الفلسطيني الذي انفجر خلال الاسبوع الماضي على شكل هبة شعبية حملت ملامح الانتفاضتين الاولى (1987) والثانية (2000).
هذا الغضب الشعبي بدأ يتخذ مستوى متصاعداً منذ قيام قطعان المستوطنين بحرق عائلة الدوابشة فـي بلدة دوما فـي الضفة الغربية المحتلة، فـي جريمة استتبعت بسلسلة اعتداءات متواصلة على المواطنين الفلسطينيين واراضيهم.
هكذا بدا واضحاً ان الشارع الفلسطيني الذي استكان لبعضة سنوات قد بات جاهزاً لانتفاضة فلسطينية ثالثة، مدفوعاً ليس فقط بحالة الغضب الشعبي المتنامية بسبب تصاعد وتيرة الاعتداءات الاسرائيلية، وإنما بزخم دولي، عكسته تحولات مثيرة للانتباه خلال السنوات الماضية فـي الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، وكان من أبرز نتائجها الرمزية رفع علم فلسطين فوق الامم المتحدة.
اللافت للنظر أن حيثيات الانتفاضة الثالثة باتت متجلية على الأرض، وهي شبيهة بأحداث مهدت لانطلاق الانتفاضتين الأولى والثانية، والتي يجمعها عامل مشترك واحد هو قضية التوسع الاستيطاني والاعتداء على المسجد الأقصى، وما قد يكون أول شرارة تشعل الأوضاع هو ما بدأه الاحتلال بتطبيق خطته الرامية لتقسيم المسجد الاقصى المبارك زمانياً ومكانياً.
ويضاف الى ذلك فشل العملية السياسية بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني والتي أخذت وقتًا طويلًا فـي التفاوض، إلا أنها أجبرت السلطة فـي فترة التفاوض على
إنهاء فعاليات أي انتفاضة، حيث ذهبت السلطة الفلسطينية الى ترتيبات امنية، ظلت سيفاً مسلطاً على الحراك الفلسطيني
بهدف انتاج اتفاق يقضي بحل الدولتين، حتى أصبح الناس منصاعين عبر تهدئة الحالة الشعبية المواجهة للاحتلال واضعين الأمل بأن سلطة التفاوض قد تنجز استقلالاً يريح الشعب الفلسطيني.
ولعل هذا ما يفسر القنبلة المنزوعة الصاعق التي رماها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فـي كلمته امام الجمعية العامة للامم المتحدة، لجهة تلويحه بالتحرر من جميع الاتفاقات مع إسرائيل، بشقوقها الثلاثة السياسي والاقتصادي والأمني، ما يعني عملياً حل السلطة الفلسطينية، واعتبار الاراضي الفلسطينية دولة تحت الاحتلال، بما يترتب ذلك على نتائج سياسية وامنية، ليس على المستوى الفلسطيني والاسرائيلي فحسب، بل على المستوى الدولي.
انطلاقاً من كل تلك التراكمات كان طبيعياً ان تتجه الأوضاع فـي الأراضي المحتلة والقدس إلى التصعيد، وأن يلجأ الاحتلال إلى خطوات قمع جديدة وفرض عقوبات جماعية، ناهيك عن إطلاق يد قطعان المستوطنين اليهود فـي الضفة الغربية والقدس المحتلة لتنفـيذ عمليات واعتداءات على الفلسطينيين والعرب فـي كل مكان.
ومن هنا، جاءت العملية الفدائية التي نفذها مقاومون فلسطينيون قرب مستوطنة ايتمار فـي نابلس، والتي قتل بنتيجتها اسرائيليان، وهما مستوطنون متشدد وزوجته المعروفة بمواقفها العنصرية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهي عملية جاءت كرد طبيعي على سلسلة الجرائم الاخيرة التي اقدم عليها الاحتلال ومستوطنيه على امتداد الارض الفلسطينية، والتي كان اخرها الاعتداء الصهيوني على المسجد الأقصى، الذي يشهد منذ اسبوعين حصارا شاملا بالتزامن مع دعوات لجماعات متطرفة يهودية إلى تنظيم اقتحامات واسعة للحرم المقدسي.
ولعل ابرز ما حققته الهبة الشعبية الفلسطينية حتى الآن هو افشال استراتيجية «إدارة النزاع» التي يقودها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والتي اعتمدها منذ وصوله الى الحكم قبل سنوات. وعلى هذا الاساس، يجد نتنياهو نفسه اليوم امام خيار من اثنين: إما التراجع عن الخطوات الاستفزازية، أو الهروب الى الامام عبر تصعيد الموقف والعودة الى احتلال كامل مدن الضفة الغربية، عبر عملية عسكرية على غرار «عملية السور الواقي» التي نفذها شارون خلال الانتفاضة الثانية.
لكن هذا الامر دونه معوقات عدّة امام نتنياهو، الذي يجد نفسه فـي وضع صعب، امام الهبة الفلسطينية من جهة، والضغوط التي يمارسها عليه اشرس صقور اليمين من جهة ثانية.
وبين التصعيد الشامل والتراجع الى الخلف، يبدو ان نتنياهو قد اختار اعتماد تصعيد لا يصل الى حد «سور واق 2». وفـي هذا الاطار، كان ملفتاً ما صدر عن الاجتماع الوزاري الاسرائيلي المصغر، الذي اطلق يد جنود الاحتلال لقمع الفلسطينيين.
ولكن الملفت أيضاً ان اجراءات القمع تلك لم تخمد الهبة الفلسطينية لا بل زادتها زخماً، لتتمدد خارج نطاق المناطق «ب» و«ج» فـي الضفة الغربية المحتلة، وخارج اسوار مدينة القدس، لتصل الى الاراضي المحتلة فـي العام 1948.
ولا تخفـي أوساط سياسية إسرائيلية تخوفها من أن تصاعد التوتر فـي الضفة والقدس، واحتمالات الانزلاق إلى حرب فـي غزة، والخشية من تسخين الحدود الشمالية، قد يدفع قوى دولية لزيادة التدخل، ومحاولة فرض حل خلافا لما تريد إسرائيل. كما لا تخفـي قلقها من واقع أن سياسة نتنياهو فـي تيئيس الفلسطينيين قد تدفعهم إلى اللجوء لخطوات أكثر عنفاً وتشدداً.
ويعيش الائتلاف الإسرائيلي الحاكم واحداً من أحلك أيامه نظراً لتدهور الوضع الأمني عموما وازدياد مخاطر خروج الوضع عن السيطرة وتعاظم الخلافات حول سبل العمل لمواجهته. ورغم أن كلا من نتنياهو ووزير دفاعه يواصلان إطلاق التهديدات ويرسلان تعزيزات من الجيش لقمع الهبة إلا أن اليمين المتطرف، حتى داخل الحكومة، يستخف بهذه الإجراءات ويطالب باتباع ما يسميه «سياسة القبضة الحديدية».
وبرغم نبرة التصعيد التي يعتمدها نتنياهو، إلا إن ثمة اجماع بين المحللين الاسرائيليين على انه لن يكون قادراً على تنفـيذ عملية واسعة كالتي نفذها شارون فـي العام 2001 باسم «السور الواقي»، ذلك ان عملية كهذه ستكون رصاصة الرحمة للسلطة الفلسطينية وحينها سوف تضطر إسرائيل للعودة إلى مربع الاحتلال المباشر فـي الضفة الغربية.
ولذلك، فإن نتنياهو يبحث عن طرق التفافـية على العملية العسكرية الواسعة، وهو امر لا يرق بدوره للمستوطنين.
وقاد الوضع الأمني المتدهور فـي القدس والمخاوف من انزلاقه نحو أماكن أخرى إلى احتشاد متظاهرين ضد نتنياهو بسبب «العجز» أمام الفلسطينيين. وأحيط مقر نتنياهو فـي القدس المحتلة بعدد من التظاهرات التي نظمها اليمين المتطرف والتي تطالب بخطوات تصعيدية ضد الفلسطينيين وبإنشاء مستوطنات جديدة، وكذلك اليسار الذي يطالب رئيس الوزراء بالرحيل.
ولم تتردد الصحافة الإسرائيلية عن إطلاق تسمية الانتفاضة على التصعيد الحاصل فـي الضفة الغربية والقدس المحتلتين، مع الإشارة إلى أنه حتى لو حاولت الحكومة الإسرائيلية وأجهزة الأمن اختيار أسماء ومسميات أخرى، فإن ذلك لن يغير من حقيقة أن ما يجري هو «انتفاضة ثالثة».
أوباما يصفع نتنياهو
رفض الرئيس الأميركي باراك أوباما التعهد لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو باستخدام حق النقض (الفـيتو) ضد أي مشروع قرار فـي مجلس الأمن الدولي يقضي بإنشاء دولة فلسطينية.
ونشر هذا النبأ موقع «بوليتيكو»، الذي ذكر ان السيناتور هاري ريد، زعيم الأقلية الديموقراطية فـي مجلس الشيوخ، حاول فـي مناسبتين مختلفتين إقناع أوباما بالتعهد بشكل علني بأن تستخدم إدارته «الفـيتو» ضد أي مشروع قرار دولي يقضي بإقامة دولة فلسطينية، خارج نطاق المفاوضات مع إسرائيل. ورغم أن ريد نفسه يؤيد إنشاء دولة فلسطينية وإخلاء مستوطنات فـي الضفة الغربية، إلا أنه يرى وجوب فعل ذلك حصراً فـي نطاق مفاوضات إسرائيلية-فلسطينية.
وأوضح الموقع الأميركي أنه رغم العلاقات الحميمة بين ريد وأوباما، رفض الرئيس الأميركي طلب زعيم الأقلية الديمقراطية، لأن الإدارة الأميركية ترفض عملياً إعطاء أي التزام صريح باستخدام «الفـيتو» فـي الشأن الفلسطيني. كما أن إدارة أوباما ترفض، من جهة أخرى، الإعلان عن أنها ستصوت مع أو سوف تمتنع عن التصويت فـي شأنٍ كهذا. وقد حاول ريد إقناع رئيس طاقم البيت الأبيض بأنه إذا أعلن أوباما موقفاً من هذا النوع، فإن هذا سيخدم الديمقراطيين فـي حشد أصوات لمصلحتهم لدعم الاتفاق النووي مع إيران. ولكن فـي نهاية المطاف، نجح أوباما فـي الحصول على الأصوات التي يحتاجها لتمرير الاتفاق النووي، حتى من دون الاضطرار لإعلان الموقف الذي طالب ريد باتخاذه.
محاولات لتغيير «ستاتيكو» الاقصى
فـي أعقاب الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 1967، تم الاتفاق بين المسؤولين عن أوقاف القدس، مع الجيش الإسرائيلي على المحافظة على الوضع القائم «ستاتيكو» فـي المسجد الأقصى، أي إبقاء الوضع على حاله كما كان قبل احتلال المدينة.
اليوم، يعتمد بنيامين نتنياهو تفسيراً خاصاً لـ«الستاتيكو» هذا، اذ يقول ان الوضع القائم يعطي الحق لليهود بدخول الأقصى، مناقضاً بذلك الاتفاقات القائلة بأن الوضع القائم يعني مسؤولية إدارة الأوقاف الإسلامية فـي القدس، عن كل ما يتعلق بالمسجد الأقصى، بما فـي ذلك تحديد من يدخل، ومن لا يدخل باحات المسجد، وإدارتها للمسجد من جميع النواحي.
ولذلك، فإن نتنياهو، وارضاءً لليمين الديني، يحاول تغيير الوضع الراهن، وتغييره على الأرض بقوة السلاح، وصولاً الى سحب صلاحيات إدارة الأوقاف من مسؤولياتها.
وفـي دليل آخر على مخططات اسرائيل تجاه الاقصى، كشفت صحيفة «هآرتس» فـي العاشر من أيلول (سبتمبر) الماضي عن مخطط إسرائيلي لتقسيم المسجد الأقصى قبل نهاية هذا العام، أقرته الحكومة سراً، أسوة بتقسيم الحرم الإبراهيمي فـي الخليل، وتقسيمه مكانياً بين المسلمين واليهود، ومحاولة الاحتلال تقسيمه زمانياً، وحسب ما نقلته الجريدة عما دار فـي جلسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، فإن هناك فرصة والظروف مواتية لحسم التقسيم المكاني للأقصى، الذي شرع به فعلياً، وصولاً إلى الهدف الإستراتيجي الإسرائيلي المتمثل فـي السيطرة على كامل المسجد، وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
يذكر أن الوضع القائم هو الذي ساد الأقصى فـي العهد العثماني، ولاحقاً فـي مرحلة الانتداب البريطاني، ومن ثم فـي العهد الأردني، قبل الاحتلال الإسرائيلي للقدس، وفـي العهد العثماني صدر أكثر من فرمان يؤكد على أن مساحة الأقصى 144 دونم بما فـيه حائط البراق، وهو وقف إسلامي ومكان مقدس للمسلمين، بينما تفسيرات نتنياهو للوضع القائم فـي المسجد الأقصى، يقضي بأن إسرائيل ملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم فـي «جبل الهيكل»، وليس المسجد الأقصى، وأن إسرائيل لن تسمح «للمشاغبين»، أي الحراس والمدافعين عن الأقصى، بمنع زيارة اليهود.
Leave a Reply