عندما تحدث النائب وليد جنبلاط عن “اليمين الغبي” في وصفه لموقف الكتل النيابية ذات الأغلبية المسيحية، ضد إعطاء الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، تحت ذريعة أنها ستؤدي الى توطينهم، ويختل الوضع الديمغرافي السكاني الطائفي والمذهبي، كما ان الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا تسمح بتحمل أعباء 400 ألف فلسطيني مسجلين في وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الاونروا).
وما قصده رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، هو ان التفكير الانعزالي–اليميني، ما زال هو هو، منذ مطلع السبعينات هو التلطي وراء رفض التوطين، لإثارة مشكلة مع الفلسطينيين الذين هم أول المتصدين لمشروع توطينهم لانه إسرائيلي–أميركي أوروبي، ويطالبون بحق العودة الى فلسطين ويصرون على ذلك، وهو ما عطّل ويعطّل مشاريع التسوية السلمية.
فاستحضار خطاب السبعينات ظهر وكأن لبنان لم يمر بأزمات وحروب داخلية، واجتياحات إسرائيلية وغزوات أميركية وأوروبية، ولا الى محاولات تقسيمية يقابلها مشاريع توطين للفلسطينيين أيضا.
فالوضع الفلسطيني في لبنان، مختلف عنه في دول عربية وأخرى وتحديداً المجاورة له في سوريا والأردن، حيث كثافة النازحين إليهما، واعترفت الدولتان لهما بحقوق مدنية، دون السياسية، حيث يستطيع الفلسطيني في الأردن الذي يحمل بطاقة هوية أردنية، مع اشارة عليها انه فلسطيني، تسلُّم مراكز في إدارات الدولة، وهذا الإجراء كان معمولاً به منذ كانت الضفة الغربية تحت وصاية السلطة الأردنية قبل ان تحتلها اسرائيل في العام 1967، حيث بدأ الخوف لدى الأسرة الحاكمة في الأردن، ان يكون هو الوطن البديل للفلسطينيين، وهو مشروع اسرائيلي أيضا، رفضه الفلسطينيون كما الأردنيون.
وفي سوريا نال الفلسطينيون كامل الحقوق التي يتمتع بها السوري باستثناء الترشح لانتخابات مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية، وتنطلق الحكومات السورية المتعاقبة في التعامل مع الحقوق الفلسطينية، على أنهم مواطنون عرباً، وأنهم نزحوا من ديارهم بظروف قاهرة، وان وجودهم في سوريا محطة للعودة التي تبقى الشعار الوحيد الذي يتمسك به الفلسطينيون ولا يتخلون عنه كما القدس عاصمة لدولة فلسطين بحدودها التاريخية والجغرافية.
ففي لبنان قصّرت العهود والحكومات في التعاطي مع الفلسطينيين كمواطنين فرضت الدولة العبرية بعد اغتصاب أرضهم وارتكاب المجازر بحقهم ومصادرة أملاكهم، ان ينزحوا الى لبنان، ويقيموا في مخيمات برعاية الأمم المتحدة التي أصدرت قراراً حمل الرقم 194، يؤكد لهم بحق العودة، إلا ان اسرائيل رفضت تنفيذه، كما ان الأنظمة العربية تخاذلت أيضا، وحاول فلسطينيون إنشاء منظمات عسكرية للقيام بعمليات فدائية، ومنع تهويد المدن والقرى التي نزحوا منها، إلا ان الحدود كانت تقفل بوجههم، وكان الحكام العرب، يؤكدون أنهم سيعملون لعودتهم ويحضرون الجيوش لحرب استعادة فلسطين، فكانت حرب حزيران عام 1967 فاحتلت اسرائيل الضفة الغربية وغزة، وحلت نكسة جديدة بالفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، إذ خسروا كل فلسطين، التي باتت تحت الاحتلال الاسرائيلي، وبدأ بعدها الكفاح الفلسطيني المسلح، الذي كانت نواته تتكون قبل عامين من الهزيمة في العام 1965 بتأسيس حركة “فتح”.
كان نشوء الفصائل والمنظمات الفلسطينية، بداية الطريق لإثبات الهوية الوطنية الفلسطينية، التي مثلتها منظمة التحرير ككيان سياسي، تم الاعتراف بها عربياً ودولياً، وهكذا عادت المسألة الفلسطينية الى ان تصبح قضية العرب المركزية، وتحركت دول تساند نضال الشعب الفلسطيني الذي لاقى دعماً من دول المنظومة الاشتراكية آنذاك الى دول افريقية وأخرى أوروبية وفي أميركا الجنوبية، إضافة الى منظمات غير حكومية، ومن المجتمع المدني.
ومع احتلال القضية الفلسطينية موقعاً متقدماً، كان في بعض الدول العربية، من يعمل على طمسها وضربها، تحت شعارات شتى كيانية وسيادية وأخرى تحت عناوين سلمية وبعد ان اقام بعضها معاهدات سلام واتفاقات صلح مع العدو الاسرائيلي، في حين ان أنظمة وأحزاباً دخلت في حروب اقتلاع للوجود الفلسطيني المسلح أولا، كما في الأردن ثم في لبنان، تحت ذريعة ان الفلسطينيين يريدون الاستيلاء على السلطة في الأردن، وتحويله الى “وطن بديل” أو في لبنان تحت عنوان مقاومة التوطين، وفي الحالتين كان الهدف هو إنهاء الكفاح الفلسطيني المسلح، والعمليات الفدائية، التي أحرجت الأنظمة العربية.
في ظل ما حصل في لبنان في مطلع السبعينات حتى الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، عاش الفلسطينيون في واقع المواجهة العسكرية سواء مع ميليشيات “الجبهة اللبنانية” أو مع اسرائيل، في تغييب الحقوق التي كانت مطموسة منذ ان وطأ الفلسطينيون ارض لبنان إذ تم التعاطي معهم خارج حقوق الانسان، وكانت النظرة إليهم من قبل أركان الحكم الذين تعاقبوا على السلطة، على أنهم مواطنون من درجة ثانية، وكان التنكيل بهم من قبل القوى الأمنية، وهم عمال في البساتين والمصانع وإجراء في مؤسسات ولم يكن يحق لهم تملك مسكناً، أو العمل في مهنة، فلم يتم تشريع وجودهم وكل ذلك تحت حجة، ان وجودهم في لبنان مؤقت، وسيعودون الى بلادهم وهذا ما لم يحصل.
ففي كل هذه السنوات، كان الفلسطينيون من دون حقوق مدنية، اعترفت لهم بها شرعة الأمم المتحدة، كما قرارات الجامعة العربية، ومثلها بعض القوانين اللبنانية، وكان التوطين هو العنوان الذي يرفع بمواجهة الحقوق المدنية، وقد زاد من تعقيد الأزمة عامل السلاح الفلسطيني الذي يحاول البعض المقايضة عليه بالحقوق، كما ان الجانب الديمغرافي يفعل فعله أيضا، كما الوضع الطائفي والمذهبي في البلد، وكل ذلك يضع الفلسطينيين في المخيمات أمام أمر صعب، اذ تضيق بهم المنازل ويحاصرون في بقعة جغرافية، ويمنع على السكان إضافة طوابق على منازلهم لانه ممنوع عليهم تحويلها من الزنك الى الباطون سوى من خالف التمدد، بحيث اكتظت المخيمات بآلاف المواطنين وباتت هناك مشكلة سكانية واجتماعية، تهدد بالانفجار، في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية متفاقمة مما يفسح المجال للتطرف ان ينمو ويتغلغل في ظل حالة اليأس والبؤس التي يعيشها الفلسطينيون، وهو ما يترك أرضا خصبة للحركات الأصولية الإسلامية ان تزدهر وتستقطب البائسين الى صفوفها.
فهذا الواقع الذي تعيشه المخيمات، دفع بالنائب جنبلاط، وقبله أحزاب وتيارات سياسية، وهيئات مجتمع مدني، الى فصائل فلسطينية للمطالبة، بتحسين الوضع السكاني والمعيشي للفلسطينيين ليعيشوا بكرامة، ويشعروا بإنسانيتهم، وقد نجح وزير العمل طراد حمادة في العام 2005، وكان يمثل “حزب الله” في تطبيق القانون بالسماح للفلسطينيين بحق العمل في حوالي 70 مهنة، في وقت غابت عن وزراء عمل سابقين وكانت خطوة ايجابية.
ففي القوانين اللبنانية ما يسمح لغير اللبنانيين بتملك ارض ومنزل، فلماذا لا يعطى هذا الحق قانونياً للفلسطيني، الذين ترفض الدوائر العقارية تسجيل شقة اشتراها خارج المخيمات، كما أنها حرمت من حصل على جنسية لبنانية.
فالمواطن الفلسطيني لا يعامل مثل العربي أو الأجنبي في لبنان، وهو ما ترك المخيمات بؤر توتر امني، وهذا ما لم ينتبه له المسؤولون اللبنانيون، الذين ان استمروا في الهروب من استحقاق الحقوق المدنية، فأنهم سيواجهون مخيم نهر بارد جديد، وهو ما بدأ يقلق الفلسطينيين كما اللبنانيين، ان تكون هناك محاولة لتهجيرهم من لبنان، بتدمير مخيماتهم كما في نهر البارد الذي يتأخر أعماره، وفي تدمير مخيمات أثناء الحرب الأهلية أو الاجتياحات الإسرائيلية مثل تل الزعتر وجسر الباشا والضبية والقاسمية وغيرها، أو ان يتم تذويب الفلسطينيين في المدن والبلدات اللبنانية، فيذوبون فيها كأفراد مع تجنيس لهم، وهو ما يسمى بالتوطين المقنع، وكل ذلك يخدم المشروع الاسرائيلي الرافض لحق العودة. لذلك عاد موضوع الحقوق المدنية يتقدم الى الواجهة ولكن تم التعاطي معه، من منظور طائفي، إذ ظهرت القوى السياسية والحزبية المسيحية، على أنها رافضة لهذه الحقوق، مما احدث انقساماً طائفياً، مع اصطفاف الجهات الإسلامية الى جانب الحقوق، وهو ما يعيد الفرز السياسي والطائفي حول الوجود الفلسطيني في لبنان المدني منه والمسلح، وفي الحالتين فان اللبنانيين لم يتعلموا بعد إدارة هذا الملف الشائك والمعقد، والمرتبط بالصراع مع العدو الاسرائيلي، وقد دلهم الدستور على الطريق، وقد اتفقوا على رفض التقسيم والتوطين معاً، فهل يسيرون على هذه الطريق؟
يبدو ان حقوق الفلسطينيين في لبنان، لم تعد تقبل التأجيل أو التسويف، وان دولاً خارجية ومنظمات دولية، بدأت تطالب الحكومة اللبنانية، ان تضمن لهم قانوناً هذه الحقوق، بالرغم من وضعه الطائفي الديمغرافي المعقد أوحيث يمكنها ايضاً ان تضغط معهم على المجتمع الدولي لتامين حق العودة، وهذا البند مسؤولة عنه الأمم المتحدة لا لبنان، الذي قد يتفجر من جديد حول الوجود الفلسطيني، إذا لم تتم معالجة هذا الموضوع بالحوار مع الفلسطينيين، الذي أقرت هيئة الحوار اللبنانية به، وقد سمت الحكومة السفير خليل مكاوي مسؤولاً عن هذا الملف ثم السيدةمايا المجذوب، كما ان جنبلاط طالب ان يتولى الوزير وائل أبو فاعور ملف شؤون الفلسطينيين، لكن طلبه رُفض، لان البعض نظر الى الموضوع من زاوية ان تمسك بهذا الملف رئاسة الحكومة، بما هي موقع سني في النظام، وأعطي الموضوع طابعاً مذهبياً على ما ذكر جنبلاط، الذي يؤكد انه هو سيتولى هذا الملف نيابياً وسياسياً، فكانت اقتراحات القوانين الأربعة التي قدمها الى مجلس النواب، من ضمن حملة تأمين حقوق مدنية للفلسطينين.
Leave a Reply