نجحت استراتيجية التدويل التي اعمدها الرئيس اللبناني ميشال عون في دفع الرياض إلى الخضوع للضغوط المتعددة الجنسيات والموافقة على منح رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري حريته، من البوابة الفرنسية، بعد أكثر من أسبوعين من الإقامة الجبرية التي دلت عليها تفاصيل ومؤشرات كثيرة، برغم محاولة السعودية انكار هذه الحقيقة.
ويسجل للبنان أنه خاض معركة تحرير الحريري بصف واحد، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة مجلس النواب مروراً بآل الحريري و«حزب الله»، متجاوزاً الخلافات والاصطفافات التقليدية، إلى حد أن خصوم رئيس «تيار المستقبل» كانوا أكثر حماسة للدفاع عنه من بعض أعضاء التيار المعروفين بتشددهم السياسي.
وترافق التناغم في مراكز القرار اللبناني مع حملة دبلوماسية منظمة قادها الوزير جبران باسيل أدت إلى استنهاض المجتمع الدولي، وفي طليعته فرنسا التي وظفت كل ثقلها الدبلوماسي والسياسي من أجل الضغط على الرياض للتوقف عن تقييد حركة الحريري.
وإلى جانب ذلك كله، تحقق التفاف شعبي غير مسبوق حول الحريري، تخطى حدود الطائفة السنية إلى الطوائف الأخرى بعدما شعر معظم اللبنانيين أن احتجاز الحريري وفرض الاستقالة عليه، أصابهم في كرامتهم الوطنية، الأمر الذي حوّل محاولة السعودية إحداث انقسام بين اللبنانيين إلى فرصة حقيقية لتعزيز الوحدة الوطنية.
لعله لم يحصل منذ استقلال لبنان أن تمت استباحة كرامته وسلطاته و«حُرمة» نظامه السياسي بهذا الشكل الصارخ والفاضح.
وعليه، فإن ما حصل مع الحريري في السعودية لم يتم قياسه استناداً إلى الاعتبارات السياسية التقليدية وحسابات الربح والخسارة، بالمعنى الكلاسيكي. فقد تجاوزت الأزمة حدود الاستقالة لتطال الكرامة الشخصية لكل مواطن لبناني، سواء كان مناصراً للحريري أو معارضاً له.
كل العوامل المشار إليها، أحبطت أهداف الانقلاب السعودي الذي كان يرمي إلى زرع الفوضى بغية حصاد الخراب، على أساس القاعدة الآتية: إذا كنا لا نستطيع هزيمة «حزب الله» فإننا سنترك له لبنان منهكاً ومحطماً..
وإذا كان اسم سعد الحريري قد ارتبط منذ استلامه قيادة السلطة ورئاسة الحكومة باسم والده رفيق الحريري وإرثه السياسي، فإنه يُسجّل لسعد أنه تمكن للمرة الأولى منذ عام 2005، في تحقيق «الفطام السياسي» عن والده الشهيد، وتكريس حيثية سياسية وشعبية خاصة به، عكستها تجربته المريرة في السعودية والتي ولدت تعاطفاً واسعاً مع شخصه، يفترض أن يبني عليه للمرحلة المقبلة.
احتمال الحصار
وعلى وقع التصعيد السعودي، هناك خشية لدى بعض الأوساط السياسية والاقتصادية من أن تلجأ الرياض في مرحلة لاحقة إلى مزيد من الخيارات المتهورة، وصولاً إلى فرض حصار اقتصادي ومالي على لبنان، في محاولة لاستنساخ النموذج القطري، باعتباره الخيار الأقل كلفة عليها في المواجهة.
وربما تعتقد الرياض أن حصاراً من هذا النوع، سيساهم بالتقاطع مع العقوبات الأميركية المفترضة، في تأليب البيئتين الحاضنة والصديقة للحزب عليه، في حين أن أي حرب عسكرية ضده ستؤدي إلى زيادة الالتفاف حوله.
مرارة «مستقبلية»
وفي انعكاس لمشاعر الغضب والمرارة التي تسود الأوساط المقربة من الحريري في «تيار المستقبل»، قالت شخصية بارزة في التيار، ضمن مجلس خاص، إن طريقة التفكير والسلوك التي اتبعتها السعودية في التعامل مع الحريري غير مسبوقة، ولسنا معتادين عليها في لبنان. وتضيف: ما فعلته الرياض لم يكن منطقياً أو ناضجاً، وأي قيادة عاقلة لا تتصرف على هذا النحو.
وتعتبر هذه الشخصية أن تصرفات المملكة مؤخراً حيال الحريري تنم عن سوء تقدير للموقف، لافتاً الانتباه إلى أن وضع الحريري قبل التسوية الداخلية كان في الحضيض على المستوى الشعبي، إلا أن انخراطه في تلك التسوية وعودته إلى رئاسة الحكومة ساهما في رفع أسهم شعبيته كثيراً.
واستغربت الشخصية ذاتها المحاولة التي قامت بها الرياض في بدايات الأزمة الأخيرة لفرض بهاء، شقيق سعد، على «تيار المستقبل» وعائلة الحريري. وتتابع: «لسنا قبيلة، ونحن نتمسك بسعد أكثر من أي وقت مضى ولا خيار لنا سواه».
وقد عكس الرد الحاد لوزير الداخلية نهاد المشنوق على فرضية «مبايعة» بهاء، حجم الاحتقان في صفوف قيادة «المستقبل»، إذ قال من دار الفتوى: «لسنا قطيع غنم تنتقل ملكيته من شخص إلى آخر».
وامتداداً لهذا المزاج المستجد لدى بعض قياديي «تيار المستقبل» وقواعده، يقول أحد المخضرمين في التيار: «بفضل رفيق الحريري أحببنا السعودية، لكن ما فعلوه مع سعد الحريري يدفعنا إلى النفور منها».
Leave a Reply